13‏/07‏/2015

هل أنت مستعد فعلا للتقاعد؟


الكثيرون يترقبون بفارغ الصبر صدور قانون التقاعد الموحد ليتحقق به حلم طالما راودهم اسمه (التقاعد)، واضعين نصب أعينهم المعاش التقاعدي (الكبير) وحده، لكن هناك جوانب عديدة للتقاعد، المعاش ليس إلا أحدها، فهناك جوانب غير مادية يغفل الذين يخططون للتقاعد عن أخذها في عين الاعتبار عند التخطيط للتقاعد، فالتقاعد يعني تغييرا من أسلوب حياة منظم إلى آخر غير منظم، من جدول أعمال ثابت إلى آخر مرن، كثيرون ممن يخرجون للتقاعد يشعرون وكأنهم في إجازة طويلة في البداية، لكن ما إن تمر عدة اشهر حتى يدرك المرء منهم بأنها إجازة مفتوحة وأنه لن يعود إلى عمله الذي قضى فيه أكثر من عقدين من عمره، الأمر الذي قد يؤدي إلى الشعور بالقلق والحزن إذ ما غاب عن بال المرء التخطيط بحذر لهذه الجوانب غير المادية من حياة التقاعد، التي يجب التخطيط لها قبل التقاعد بمدة كافية.

ومن أهم وسائل التخطيط للتقاعد هي في تحديد الأسباب التي تدعوك للتقاعد في المقام الأول، وهل هي أسباب واقعية فعلا، أم هي (عذر) للهروب من أمر أكثر أهمية يقلقك، وهل فعلا تحتاج للتقاعد لتعيش الحياة التي تحلم بها، أحد التمارين التي قد تجدها مفيدة في هذا المجال أن تجرب وضع قائمة بعشرة مشاريع تدغدغ أحلامك وتغريك بالتقاعد، وتتوقع أنك ستنفذها في حال تقاعدت من عملك، أمام اي نشاط أو مشروع ضع الوقت الذي تمضيه في ممارسة هذا النشاط حاليا، إذا كنت في الوقت الحالي لا تخصص وقتا لها فما الذي يضمن لك أنك ستفعل إن تقاعدت، لأنها إن كانت بذات الأهمية فلن تستطيع تأجيلها كل هذه السنوات، ذلك أنك ستجد وقتا لعمل الأشياء التي تحب مهما كانت انشغالاتك، بالتالي فقد لايكون هذا سببا مقنعا أو حقيقيا لتتخذ بناء عليه قرار التقاعد

 وإن كنت قد قضيت أكثر من عشرين سنة وعملك هو محور حياتك، فربما من الأهمية بمكان أن تفكر في كيف ستقضي بقية عمرك، وكيف ستستغل هذه الطاقات الكامنة فيك، والخبرات التي تراكمت لديك عبر هذه السنين، والمهارات التي عملت على تنميتها طوال فترة عملك، ما مصيرها بعد التقاعد، حتى لا تجد نفسك وقد وقعت ضحية للملل والفراغ، مع الأخذ في الاعتبار الارتفاع الكبير في متوسط عمر الفرد الذي يعني بأنك ستقضي من عشرين إلى ثلاثين سنة أخرى في مرحلة التقاعد، مما يتوجب التخطيط لها بحذر، ماذا بشأن زوجتك التي قد تكون موظفة هي الأخرى، هل ستتخذ هي أيضا قرارا بالتقاعد معك،هذا موضوع تحتاج لمناقشته معها قبل القدوم عليه بفترة كافية، حتى لا يتحول إلى مصدر لزعزعة استقرار الأسرة، إذ ما فاجأتها به يوما، وفي حال كانت زوجتك كانت تدير شؤون الأسرة طوال فترة وجودك في العمل بالنسبة لأولئك الذين فضلوا ترك أسرهم في الولاية خلفهم فيما عاشوا هم حياة عزوبية اختيارية في العاصمة مسقط، فإن هذا سيشكل تغييرا جذريا على أسلوب حياة جميع أفراد الأسرة، التي ظلت طوال تلك السنين تعيش بنظام وروتين معين، قد تجد بأن حلمك بأن تتقاعد لتسترد دورك كرب اسرة مقيم بعد ان تخليت عنه كل هذه السنين، قرارا غير مرحب به من أفراد أسرتك، خاصة وأن وضعك النفسي والفراغ الذي تعاني منه قد يؤثر على مزاجك مما سينعكس على طريقة تعاملك مع أفراد أسرتك، مما يعني أن عليك أن تفكر جيدا في هذه الخطوة، وتهيئ لها نفسك نفسيا ومعنويا.



خطط لوقت الفراغ بشكل جيد، لدي بعض الأصدقاء طلبوا نقلا ليكونوا بالقرب من أسرهم قبل التقاعد بسنوات قليلة، وشكل ذلك مرحلة انتقالية للتقاعد، لكن النقل قد لايكون خيارا مطروحا لك، وعليك البحث عن خيار آخر، ثم بعد ذلك تأتي الخطط المالية، بحيث تسأل نفسك هل لديك ما يكفي من دخل بعد التقاعد، لأن الكثيرين لم يسعفهم الوقت لادخار ما يكفي لهذه المرحلة، مقتنعين بأنهم يستطيعون العيش على معاش التقاعد وحده، إن كنت من هذه الفئة، وتفكر جديا في التقاعد، فأقل تقدير أن تحاول التخلص من أية ديون أو التزامات مالية قد تشكل عبئا على معاش التقاعد، وتوفر منزلا تستطيع العيش فيه ووسيلة مواصلات، وإن كان لديك متسع من الوقت قبل التفكير للتقاعد فقد تكون الفرصة مواتية للتفكير جديا في التوفير لهذه المرحلة، لأن معاش التقاعد لن يكفي لتعيش به حياة مريحة تستحقها بعد سنوات طويلة من الكفاح، وكلما بدأت التوفير مبكرا كلما استطعت أن تصل لحلمك أسرع، وكلما كان المبلغ الذي ستقتطعه للتوفير أقل، في حين ستضطر إلى اقتطاع مبلغ أكبر اذا كان الوقت الذي يفصلك عن التقاعد قصيرا، المهم أن لا تتخذ قرارا كهذا دون دراسة متأنية، لظروفك، ووضعك المالي، ودون اشراك من ستتأثر حياتهم بقرارك هذا في هذا القرار، وهم عائلتك في المقام الأول.

06‏/07‏/2015

فلوسي تتطاير

تفاجأت بالعنوان المقترح لأولى حلقات النقاش التي نستكمل بها جلساتنا الرمضانية، والتي باتت تقليدا رمضانيا جميلا ترعاه مملكة ود للاستشارات الأسرية والنفسية ضمن مشروع المسؤولية الاجتماعية للمركز للسنة الثالثة على التوالي، كنت في الواقع قد نويت هذا العام طرح مواضيع جديدة كوني شعرت بأن هذا الموضوع أخذ حقه من النقاش في هذه الحلقات، خاصة في ظل وجود عدد من المشاركات مستمرات منذ السنة الأولى للبرنامج، لكن من باب القناعة أيضا بأن التكرار هو أبو المهارات قررت المضي قدما فيها، لأنه السؤال الذي يتكرر أكثر من غيره، والشكوى التي يبادر بها معظم الناس عندما يأتي الحديث عن المال، بأن (الفلوس تتطاير) دون أن نشعر بها، ولا ندري أين تذهب، والسبب الرئيسي بالطبع في أن البعض لا يدري أين تذهب نقوده يكمن في غياب التخطيط لها، معظم الذين تحدثت إليهم لا يعترفون بضرورة وضع موازنة لدخولهم ومصروفاتهم، وحتى أولئك الذين يفعلون لا يلتزمون فيها من الأساس، وتجدهم في نهاية الشهر وقد تجاوزوا بنود الموازنة بكثير، ومن ثم يأتي من يقول بأن – فلوسي تتطاير- .
وأهم أسباب فشل الالتزام بالموازنة يكمن في غياب الحافز أو الدافع، فالموازنة في النهاية هي مجموعة أهداف مالية، تتوفر فيها جميع أركان الهدف، بالتالي إذا كان الدافع للهدف ليس موجودا أو غير واضح لن تتمكن من الالتزام به، الأهداف قد تكون أهدافا قصيرة المدى كدفع الفواتير الدورية في وقتها تجنبا لقطع الخدمة، وتوفير مقومات الحياة الأساسية من طعام وشراب ، وربما تكون أهدافا متوسطة الأمد كشراء سيارة جديدة بحلول شهر رمضان من أجل الاستفادة من العروض التي تقدمها وكالات السيارات في هذا الشهر الفضيل، أو عطلة عائلية خارج السلطنة مع الأسرة، أو تكون خطة طويلة الأمد كشراء منزل خاص أو تعليم الصغار، فهنا فقط يكون لدينا هدف واضح ومحدد وبقدر رغبتنا في تحقيقه بقدر ما سيكون الالتزام بالموازنة صارما، أما التخطيط لمجرد التخطيط فمصيره الفشل في الغالب، والموازنة تفقد معناها إذ ما لم يتم الالتزام بها، لا بأس طبعا أن يتم تجاوز بعض البنود في الحالات الاستثنائية، فهي في النهاية خطة مستقبلية، وأية خطة يتوجب أن تكون مرنة إلى حد ما، لكن شريطة أن لا يتحول الاستثناء إلى قاعدة.
أحد الأسباب التي لحظتها شخصيا في بعض الموازنات التي عرضت علي أنها لا تعبر عن الاحتياج الحقيقي، بمعنى أن الفرد ومن أجل أن يحقق هدف التوفير على سبيل المثال، تجده يقتر كثيرا على نفسه حين يضع الموازنة، بالتالي من الطبيعي أن تتجاوز البند الذي لا يعبر عن احتياجك الفعلي، البعض وخاصة النساء يشكل مبلغ التوفير الجزء الأكبر من الموازنة على حساب الاحتياجات الأخرى، هنا سيجد المرء نفسه يتمرد على الخطة التي وضعها لنفسه، عملا بقاعدة الضغط يولد الانفجار، وسيأتي عليه يوم يصرف جل ما وفره في أمر يرغب فيه، لذا من الضرورة بمكان أن يكون هناك توازن معقول في بند (أريد) مقابل بند (أحتاج) عندما يوزع الدخل على بنود المصروفات، فنحن في النهاية بشر، لدينا رغبات، ونتوق أحيانا إلى إرضائها، كما أنني أرى من الضرورة بمكان أن يكافئ المرء نفسه بين الحين والآخر حتى لا يشعر بالضيم وهو يرى جل دخله يذهب لتغطية الاحتياجات الضرورية، فالمرء منا يعمل ويجتهد طوال الشهر من أجل هذا الدخل. أمر آخر يتكرر لدى البعض عند تخطيط الدخل وهو وضع التوفير كآخر بند من بنود الموازنة، بمعنى أنه يوزع الدخل على بنود المصروفات ومن ثم المتبقي يضعه في بند التوفير، في حين أن العكس هو الصحيح، إذ يجب اقتطاع مبلغ التوفير في البداية.
وحبذا لو يتم إنشاء حساب مصرفي خاص له، ويحول تلقائيا بشكل دوري حال وصول الراتب، ومن ثم يوزع المبلغ المتبقي على بنود المصروفات، وعندما نتحدث عن (حساب توفير)، من المفترض أن يكون حسابا غير قابل للسحب منه إلا للهدف الذي وضع من أجله، وفي الغالب الهدف هنا يكون من الأهداف متوسطة أو طويلة المدى، وإلا فقد الحساب الغرض من إنشائه، ومن الأخطاء الشائعة أيضا التي لحظتها لدى البعض هو عدم إعطاء أهمية للمصروفات الصغيرة، وهي أكبر كارثة تهدد الخطة المالية، لأن هذه المصروفات الصغيرة هي التي تنسل بين أصابعنا دون أن ننتبه لها، حتى تشكل في نهاية الخطة المالية جبلا يصعب السيطرة عليه، فالنار من مستصغر الشرر ، وهذه المصروفات تختلف من شخص إلى آخر، ووفقا لمستوى الدخل، وتتراوح ما بين كوب كرك يومي أو زجاجة مياه معلبة، وحتى الملابس و الكماليات، لذا فالسيطرة على الدخل أرى شخصيا أنها تبدأ من السيطرة على هذه البنود الصغيرة، لأنها السبب الرئيس لتطاير النقود لدى الكثيرين، خاصة في ظل ثقافة الاستهلاك السائدة في هذا العصر، حيث باتت البضائع والخدمات متوفرة بكثرة، ولم نعد حتى بحاجة للخروج والبحث عنها في ظل الأسواق الافتراضية المتوفرة على الهاتف النقال على الدوام، بالتالي باتت اليوم الحاجة ملحة للتخطيط المالي المتوازن..

29‏/06‏/2015

هلا نصحتني من فضلك

أخذنا موقعنا وصديقة طفولتي على أعلى كثيب رملي ذلك المساء الشتوي، وشرعنا نستذكر ذكريات الطفولة الأولى في بلدتنا التي احتضنتنا (سيوحها) صغارا، كنت اتأمل حبيبات الرمل الحمراء وهي تنساب بين أصابعي كشلال من الذهب مبهورة بذلك الجمال الذي طالما ملك شغاف روحي، والذي كان لديه القدرة لإخراج الطفلة بداخلي كما لا يستطيع أي منظر طبيعي آخر أن يفعل، لم اشعر به يقترب منا، حتى وقف قبالتي، ابتسم لنا بحب قائلا: ما رأيكن أن نتسابق على تسلق هذه الكثبان، ألقيت نظرة حولي وعدت أتفحص وجه خالي الحبيب مرة أخرى لأرى ما إذا كان جادا في عرضه ذاك، لكني وجدت عيناه تنظران إلينا بتحد، وعلت وجهه ابتسامة أدرك مغزاها جيدا، عدت مرة أخرى ونظرت حولي، ولم أجد سوى سلسلة من التلال الرملية، التي وجدت صعوبة في المشي على ترابها الناعم الذي كانت رجلاي تغوصان فيه، فأجد صعوبة في إكمال الخطوة التالية، كنت أعرف بأنني بصدد دخول سباق غير عادل، لكنني عنيدة عناد الصحراء الذي نشأت فيها، فوجدتني أنظر إلى رفيقتي أومأت إليها بالنهوض، قفزت على الفور ووقفنا بمحاذاة خالي الستيني، الذي ابتسم ابتسامة تحد قبل أن يأذن ببداية السباق، لم تمض أكثر من ثلاث دقائق على بدء السباق حتى أعلنا الاستسلام، وسقطنا مكاننا، فيما كانت عيوننا تراقبه وهو يركض بخفة على تلك الرمال، التي لم يفقد صلته بها كما فعلنا.
كنت أعرف تماما مغزى تلك الدعوة للسباق، فلم يكن معنيا بمسابقتنا لأنه كان يدرك بأنه سباق غير عادل، لكنها كانت رسالة بأنه غير راض عن الوضع الذي وصلنا له أنا وابنة خالتي العزيزة من بدانة وفقدان اللياقة، وهو أمر يكرهه كثيرا في أفراد عائلته، الرسالة وصلت لكلينا، وبشكل ماكان ممكنا أن نتجاهلها ، وماكان ممكنا أن ننساها أيضا، فلدى خالي العزيز أسلوبه الفريد في النصح والتوجيه، فنادرا ما سمعته يوجه النصح المباشر، فقد كان يؤمن بالفعل أكثر من إيمانه بالقول، وعمل طوال حياته على أن يكون قدوة ومثلا أعلى لأفراد العائلة، سواء في الالتزام بالنظام الصحي المتوازن أو بثبات المبادئ والقيم، هو الذي ظل حتى آخر يوم من حياة جدتي يرفض أن يقبل رأسها كما كان يفعل بقية أفراد العائلة عندما يدخل غرفتها كل صباح ملقيا عليها التحية، بل كان يخر تحت قدميها.
شخصيا لا تتاح لي رؤيته كثيرا بسبب إقامتي بعيدا عن الأسرة، لكن نادرا ما التقيت به دون أن أحمل معي درسا قيما يحفر في الذاكرة، فلديه كما قلت اسلوبه الفريد الذي لا يشعرك بأنه ينصح أو يوجه، أذكر قبل سنوات أثناء زيارة لي لمنزله أنني كنت أتحدث إلى بناته، وحدث أن كان الحديث حول زوجي ذلك اليوم، أذكر يومها أنني عقبت على كلام النساء اللائي كن يثنين على زوجي بالقول: نعم أنا ممتنة للمولى الذي رزقني زوجا رائعا، إنه استثنائي بحق، كان خالي العزيز يعبر الممر حين استوقفته العبارة فعاد أدراجه، أدخل رأسه من باب الغرفة ونظر إليَّ معاتبا: لا أريد أن أسمع منك هذه الكلمة مرة أخرى يا بنت سعيد، كنت أظن بأنه أساء فهمي فشرعت بالدفاع عن نفسي لكنه كان اسرع مني فقال معقبا: أنت الرائعة وأنت الاستثنائية، وتذكري دائما بأنه عندما يعاملك أحدهم معاملة رائعة فهذا لأنك تستحقينها، زوجك ليس رائعا، بل أنت الرائعة، قالها وغادر قبل أن يعطيني فرصة للتعليق، فكانت عبارة غيرت مجرى حياتي، والطريقة التي أنظر بها إلى نفسي و الآخرين، عبارة واحده لا أكثر، قيلت في الوقت المناسب، والصيغة المناسبة، حفرت لها مكانا دائما في القلب والذاكرة لن يمحى، وكذلك هي جميع توجيهات ونصائح هذا الرجل الاستثنائي الذي لم يعاملني يوما كطفلة حتى في سنوات طفولتي الاولى، فقد كان يحترمني كثيرا، يقتطع دائما وقتا للجلوس معي أثناء زيارتي لمنزل العائلة ليحاورني ويناقشني في مواضيع شتى، فقد أخذت من والدي ومن أخوالي شغفي بالكتب، وكانت طريقته في تعزيز روح القراءة فينا نحن الصغار بأن يشاركنا رأيه فيما نقرأ، حتى لو كان فهمنا للكتاب الذي قرأنا مغلوطا بحكم المرحلة العمرية، إلا أنه كان لديه أسلوبه المميز في لفت انتباهنا للمعنى الذي قصده الكاتب، عندما جاءتني البعثة الدراسية للولايات المتحدة الأمريكية تفاجأت به يقف في صف والدي بحزم في قراره بأن يسمح لي بالسفر للدراسة بالخارج، مكررا ما سبق لوالدي أن قاله بشأن عدم الاكتراث بما يقوله الناس، وبأنه بعد مدة سأكون قدوة يحتذى بها، وسأشق طريقا لبنات جيلي بتلك الخطوة الجريئة، أستذكر هذا الرجل كثيرا هذه الأيام – أطال الله في عمره – وأنا أعيش ذكرى وفاة والدي الذي أشعر دائما بأنه امتداد له، في شبهه الشديد به في اعتداده بنفسه وبأفراد اسرته، وبرفضه الانصياع لما يسمى بالتقاليد البالية، وبحرصه أن يكون مثلا أعلى وقدوة يحتذى بها قولا وفعلا قبل أن يشرع في توزيع النصائح المجانية كما يفعل بعض المربين والتي تتعارض بشدة مع سلوكياتهم الفردية، متوقعين أن تجد نصائحهم هذه صدى لدى متلقيها، لكن هيهات، فالفعل حقا أقوى تأثيرا من القول.

16‏/06‏/2015

الدوام لله

بالنسبة للكثيرين فإن العمل لا يتعدى أن يكون إثبات حضور وانصراف في الوقت المحدد، بغض النظر عن كيف تقضى الساعات الواقعة بينها، لهذا تقضي هذه الفئة من الموظفين حياتها المهنية في إحباط دائم، ومعنويات منخفضة، وشعور دائم بعدم الرضا، ذلك أن الانسان بطبيعة الحال ولد على الفطرة السوية التي تأبى في الغالب السلوكيات غير السوية، حتى وإن حاولنا إنكار ذلك، والعكس دائما صحيح، اذ أن الانسان المنتج تجده راضيا سعيدا، فالشعور بالانجاز يولد تقدير ذات مرتفع، وثقة عالية بالنفس، تتحول إلى دافع قوي للإنتاج والتميز، ذلك أن المنتج يكون منشغلا طوال الوقت بعمله والتركيز على أهدافه الذي يشغل حيزا كبيرا من تفكيره فلا يدع له مجالا للتفكير السلبي، وعلى العكس تماما بالنسبة لمن يقضي طوال يومه واضعا يده على خده، متنقلا بين أروقة المكاتب بلا هدف، أو متسمرا على مكتبه بلا عمل، مما يجعل عقله عشا للمشاعر السلبية، من غيره وحسد، وغضب، إلى شعور بانعدام الثقة والاحباط من مراقبة من حوله وهم يصعدون سلم الوظيفة بخطى سريعة، والمشاعر السلبية هي في الحقيقة عدو النجاح الأوحد، فهي تعمل كالقيود التي تقيد صاحبها وتمنعه من الانطلاق نحو أهدافه، ويتفق علماء النفس بأن الشعور بالانجاز مطلب بشري فطري، يؤدي إلى شعور بالسعادة والرضا، وربما هذا مايفسر تسخير البعض حياته من أجل العمل، الذي يرتبط بالنمو الشخصي، نتيجة اكتساب مهارات ومعارف جديدة، وبناء للقدرات، وبالنسبة لهؤلاء فإن العمل دائما مرتبط بهدف واضح يسعى المرء منهم لتحقيقه، يتعدى أن يكون هذا الهدف راتب آخر الشهر الذي غالبا مايكون هو هدف تلك الفئة التي تحدثنا عنها في مستهل هذا المقال، وطالما وجد الهدف أصبح لكل مانعمل معنى، ومتى غاب الهدف تحولت الحياة إلى سلسلة من الصدف، والخطوات غير المدروسة التي لانعرف إلى أين ستأخذنا، وهو مايولد هذا الاحساس بعدم الأمان التي تعيشه هذه الفئة، التي غالبا مايكون مصيرها متروكا للصدف، وهو شعور قاتل بلاشك، ولعل من جرب هذا الشعور وحده من يعي مقدار الألم والضياع الذي ينتج عنه، مهما حاول البعض أن يبرر ويدافع عن موقفه هذا تجاه عمله، والذي غالبا ما يبرر أسبابه بالعوامل المحيطة به، ويتظاهر بأن لايد له فيها، ويلقي باللوم دائما على المحيطين به، وعلى الظروف، فلا يزيده ذلك إلا إحباطا وألما، لأن التنصل من المسؤولية تجاه الذات، وترك مصيرك للآخرين يسيرونه هو بداية الفشل، لذا فدائما مايعرف النجاح بأنه (المسؤولية) وأخذ زمام الأمور في حياتك، وليس أقلها الحياة المهنية التي يقضي المرء منا مايزيد عن نصف حياته فيها، فمتى ماصلحت صلحت الحياة، ومتى مافسدت فسدت الحياة برمتها، في تفسير الامام الشعراوي رحمه الله لسورة البقرة، أذكر بأنه قال بما معناه أن الله سبحانه خلقنا ووضعنا على هذا الكوكب لغاية، لذا فإنه جلت قدرته سخر لنا مافي السموات والأرض ومابينهما لنعمل فيها الفكر ونستخرج النعم التي وضعها المولى فيها، من خلال معجزة العقل البشري الذي خصنا به دون سوانا، إذ أنه وضع لنا بداية الأشياء الأساسية والضرورية لبقاء الحياة ووزعها بيننا بالتساوي كالشمس والهواء، والبعض منها يتطلب قليلا من الجهد للحصول عليه كالماء والطعام، وما زاد عن ذلك تركه لجهد وإجتهاد العبد، يغترف منه لتحقيق الرفاهية التي ينشد، لذا كان دائما الجزاء من جنس العمل خيرا وشرا، فتقصير المرء منا في أداء واجباته الوظيفية حتما سيكون جزاؤها الحرمان من الرفاهية المتمثلة في النجاح المهني والتفوق، والذي يجلب معه دخلا عاليا، ومن عجائب خلق الله لهذا الكون أن وضع له قوانين ثابتة تسيره بدقة متناهية، كدوران الأرض حول الشمس بمسافة محسوبة بدقة، فلو اقتربت الأرض قاب قوسين أو أدنى لتحول كوكبنا إلى رماد منثور، ولأصبح قطعة ثلج إن ابتعدت الأرض قيد شعرة عن الشمس، هكذا هي حياة الانسان تسيرها قوانين ثابتة لا تتغير، حرصا من رب الكون على حفظ هذا التوازن، والعمل الذي نؤديه ليس استثناء من هذه القاعدة، فالانسان مطالب بإنجاز عمله على أكمل وجه، ويكون جزاء هذا الاتقان توفيق من المولى، والعكس هو الصحيح، فمن يقصر في عمله يستقطع لنفسه حقا ليس له، فلابد في هذه الحالة من رد حق اكتسب من غير وجه حق إلى مستحقيه، ليتحقق بذلك التوازن، فإن أنا كسبت راتب لم أعمل من أجله، ثق ايها القارئ الكريم بأن الله العدل سيسترد هذا الحق عاجلا أم آجلا، بطريقة أو بأخرى، كأن يصيدني رادار أثناء خروجي من عملي، أو أتعرض لحادث سير، أو ربما أعود لأجد فرد من الاسرة متوعكا فاضطر أن أخذه لعيادة أو اشتري له الدواء، أمور لا نتفكر فيها كثيرا عندما تحدث لنا، لكنها عدالة السماء التي لا تترك أحدا، الامام الشعراوي جزاه الله عنا خير الجزاء يقول: عندما ترى شخصا شاكيا فاعلم أنه مشتكى، فالله يمهل لكنه لايهمل..

08‏/06‏/2015

على المنصة

سمعته يقول لزميله انتظر حتى تصعد إلى المنصة، حيث ستختفي هذه الجدية وهذا الوقار، فيها تصبح شخصا آخر تماما عندما تبدأ في الحديث، لم يدهشني تعليق (مبارك) هذا، فقد سمعته كثيرا، فحتى أنا أستغرب من تلك الشخصية التي تتقمصني على المنصة، حتى ليخال إليّ أني امرأة أخرى لا أعرفها تقف مكاني، تلك الليلة كنت في زيارة لجامعة السلطان قابوس لحضور اجتماع برنامج الجامعة للخطابة والقيادة باللغة العربية (الجامعة)، والذي شهدت ولادته الأولى وعاصرت نشأته قبل أن يرى النور كبرنامج، كوني اخترت مجال التنمية البشرية، لتكون مجال عملي التطوعي، والخطابة والقيادة بالذات، بانضمامي لمؤسسة توستماسترز الدولية غير الربحية للخطابة، فعلى مدى ربع قرن من الزمن هي رحلتي المهنية أتيحت لي الفرصة لمقابلة واختبار آلاف الباحثين عن عمل، وكان أكثر ما يؤلمني في هذه المقابلات هو ذلك العجز عن التعبير عن الذات الذي يعاني فيه الغالبية من شبابنا، والمؤلم حقا أن الأمر متفش أكثر في الذكور عنه لدى الإناث، أجزم أن عددا لا بأس به من الكوادر المؤهلة والكفؤة فاتتها فرص وظيفية تستحقها بجدارة، لكن عجز أصحابها عن التسويق لأنفسهم، من خلال فشلهم في الإجابة عن أسئلة المقابلات الشخصية، كنت في كل مرة أتمنى لو كان لدينا برامج معنية لإكساب هذا النوع من المهارات، فإضافة إلى أهميتها في مجال التقدم المهني، فهي لا تقل أهمية عنها في المجال الشخصي، ورغم ذلك فإن الوقوف أمام الجمهور يشكل مصدر قلق مزعجا لفئة كبيرة من الناس، إذ تشير الدراسات إلى أن 80% من الناس لديها شكل من أشكال رهبة مواجهة الجمهور وبدرجات متفاوتة، وكواحدة ممن عانيت في فترة من حياتي من هذا الخوف المزعج، أعمل جاهدة على أن يعرف من يعاني منه متعة الوقوف على منصة والحديث على الملأ، إنها متعة لا تضاهيها متعة، فهي تعطي المرء إحساسا بالحرية، الذي يعقب تغلبه على خوفه، والذي على فكرة موجود بدرجات متفاوتة عند أفضل المتحدثين، فالرهبة لا تختفي أبدا، مهما بلغت درجة تمكن المرء من خطبته، ومهما بلغت درجة ثقته بنفسه، تبقى مساحة من الرهبة موجودة، لكن الشعور بالتحرر من تلك الرهبة شعور رائع فعلا، ويستحق العناء، فعلى الرغم من أن الكتابة هي شغف أمارسه كهواية بالدرجة الأولى، لكن متعة الوقوف على المنصة تمنحني شعوراً عارما بالرضا أكبر بكثير من تلك التي تمنحني إياها الكتابة، ولعل ذلك يعود إلى كون الكتابة لا تمنحني فرصة رؤية التأثير على القارئ. فأنا لا أعرف من الذي يقرأ ما أكتب، وما إذا كانت كتاباتي تجد صدى لدى الآخرين، في حين أن الحديث المباشر مع جمهور يجعلني أستشعر قوة هذا التأثير بشكل مباشر، إعجابا، ضجرا، تأثرا، أو حتى لا مبالاة، فيسعفني الوقت لأصوب أدائي مباشرة، وأستشعر مع جمهوري تأثير ما أقول، أفرح جدا عندما أرى العيون متسمرة على المنصة، وتزداد سعادتي وأنا أقرأ التأثر على ملامح الناس التي تتلقى ما أقول، ولهذا ربما أعجز عن تصنع الجدية في خطاباتي، حتى الرسمية منها، رغم محاولاتي الدؤوبة في ذلك، وفي كثير من الأحيان فإن نوعية الجمهور ذاتها تفرض على المتحدث طريقة الأداء، فقبل أشهر دعيت إلى فعالية كان المتحدثون فيها نخبة من المثقفين والأدباء العمانيين، إلا أن الحضور على ما يبدو لم يكن حسب المتوقع مما حدا بالمنظمين إلى الاستعانة بمدارس الولاية لتعبئة المقاعد الخالية، صعدت المنصة فوجدت أمامي قاعة تمتلئ بأطفال ضجروا من الاستماع على مدى ساعات إلى موضوعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، عجزت حتى أنا أحيانا في فهمها، جهلا مني طبعا بالموضوعات التي اتخذت الطابع الفني البحت، رغم كوني قد وعدت نفسي بأن أكون أكثر جدية ورسمية كما هو متوقع مني في مثل هذا الموقف، إلا أن نظرات الصغار جعلت ذلك المارد الصغير يخرج رغما عني، حرصت طوال الوقت ألا تلتقي عيناي بعيون أي من الكبار الذين كانوا يشغلون الصفوف الأمامية، والتركيز على الصغار التي كانت ضحكاتهم، ونظراتهم المتحمسة تمدني بالقوة، فالصغار لم يخيبوا ظني على الإطلاق، جعلوني أنسى أن في القاعة غيرهم، وأردت أن أرد لهم الجميل ولا أخيب ظنهم فيّ، محدثة نفسي أن الكبار قد حظوا بما يكفي من الأوراق التي قدمت ذلك اليوم، أثناء خروجي من المسرح في نهاية الفعالية، رأيت الصغار يتحلقون حولي شاكرين لي عرضي، تقدمت إحدى الصغيرات واحتضنتني بحب قائلة: كنت رائعة أستاذة، ورقتك الوحيدة التي فهمناها، مثل ردود الأفعال هذه من المستحيل أن تمنحك إياها الكتابة، الأمر الذي يجعل مصارعة بعبع الخوف من مواجهة الجمهور يستحق كل العناء، قد لا يكون السبيل إلى ذلك سهلا، لكن كما تقول الحكمة العمانية الدارجة (وجع يوم ولا وجع دوم).

01‏/06‏/2015

زاهر المحروقي الرجل الذي أعرف ولا أعرف



قرأت مقالة (الابتلاء والاختبار) لزاهر المحروقي في جريدة الرؤية بتاريخ 19 مايو 2015 للميلاد أكثر من مرة، ما احتواه المقال من شعور الكاتب بالتقصير وهو يقارن حياته بحياة الشيخ خلفان، استوقفتني كثيرا، وكنت قبل رؤيتي للمقال بلحظات أتفكر في موت الشيخ خلفان، وتلك الضجة التي أحدثها موته، وأنا أتصفح ما كتب عنه في وسائل التواصل الاجتماعي، هل كان يعرف الشيخ بهذا الحب الذي يكنه له الناس، هل بادر هؤلاء بالتعبير له عن امتنانهم لتأثيره في حياتهم أثناء حياته، أجزم بأن الشيخ لم يصله إلا القليل من هذه المشاعر في حياته، فلم علينا أن ننتظر حتى يموت المرء منا للاعتراف له بمشاعرنا تجاهه، ونعترف له بمدى تأثيره في حياتنا؟، وهو ما أوحى لي بكتابة هذه المقالة عن زاهر المحروقي ذاته، الذي استوقفني كثيرا حديثه عن تقصيره تجاه دينه والبشرية، إلهي ماذا علينا نحن إذن ان نقول إن كنت أنت بكل ما سمعت عنك تشعر بالتقصير، – ونحسن الظن به ولا نزكي على الله أحداً – فإذا استثنينا الشخصيات التي كتب عنها في مقالاته، مساهما بذلك في لفت الأنظار إليها ومنحها التقدير الذي تستحق، فهو يقف بصمت – بشهادة الكثيرين- وراء كثير من النجاحات في مجال الإعلام وباعتراف شخصي من البعض منهم، يعمل ذلك بصمت ومن وراء الكواليس، فقد تكررت شهادة البعض منهم أمامي شخصيا اكثر من مرة، آخرها كان قبل مدة أثناء أمسية ثقافية، دعيت لها لمشاركة كل من الروائي سليمان المعمري والمذيعة نايلة بنت ناصر البلوشية، طرح أحد الحضور حينها سؤالاً علينا نحن الثلاثة عن أكثر الشخصيات تأثيرا في حياته، فأجمع كل من سليمان ونايلة على زاهر المحروقي، تأثرت كثيرا بما قيل في تلك الأمسية واستوقفتني عبارات سليمان المعمري بالذات لصراحته الشديدة المعروف بها، فقد ذكر أن زاهر أثر عليه بسلوكه النبيل وأخلاقه العالية والتزامه الديني أكثر من أي إنسان آخر عرفه، و أجمع الاثنان أنهما تلقيا الكثير من الدعم والرعاية والمساندة اللامحدودة من زاهر الذي لم يبخل عليهما وغيرهما بالنصح والتوجيه والدعم، حتى أن سليمان قال بالحرف الواحد (لولا زاهر ما رأى كتاب من لايحب جمال عبدالناصر النور).
تأثير هذا الرجل ليس حصرا على الإعلاميين الذين عملوا معه، ذلك أنه من أكثر الشخصيات العمانية تأثيرا، فكتاباته التي يقرأها الإنسان البسيط و والمثقف على حد سواء، كانت ولا تزال تؤثر في حياة الكثيرين منا، تأثيرا لا يقل عن تأثيره الشخصي، وللأمانة فأنا لا أعرف الرجل شخصيا، ولم يسبق لي أن التقيت به، لكنه ما فتئ يثير فضولي بعد أن سبقته سمعته إلي، في كونه نموذجا في الصدق، وفي تطابق الداخل مع الظاهر، و في عطائه ، وتواضعه الجم رغم كفاءته ككاتب والتي تتجاوز كفاءة كثير من الكتاب ولن أقول العمانيين بل العرب أيضا، فكتاباته السياسية تتسم بالعمق، وقد أدهش قراءه بقدرته على التنبؤ بالأحداث قبل حدوثها، إذ تم إعادة تداول مقالة (هل نحتاج دائما إلى العين الحمراء) التي كتبها إثر أحداث دبا مؤخرا في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد سبق للكاتب أن تنبأ بما سيحدث في دبا من خلال مقالات كتبها في يناير 2011 تحت عنوان حكايات عن محافظة البريمي، لكن من يقرأها اليوم يشعر أن الكاتب يتحدث عما يحدث على الساحة اليوم، وكذلك تنبؤاته بمصير القذافي، فمقالاته كما يضعها الروائي سليمان المعمري عندما تقرأها قد لا تعطيها أهمية في حينه لكن مع مرور الوقت تكشف أهميتها، ولربما ما يميز زاهر هو صدقه الذي لا يساوم عليه فكتابه (حان وقت التصحيح) يعد خطة استراتيجية لعمان، وكتب ايضا (الطريق إلى القدس) من الكتب الغزيرة في معلوماتها، المشكلة التي يعانيها هذا الكاتب الرائع، يعانيها غيره من الشخصيات التي تفضل العمل بصمت وبإخلاص منقطع النظير، بعيدا عن الضجة الاعلامية التي يجيدها البعض، شخصيا أغبط هذا الرجل كثيرا، فقلة قليلة فعلا من الناس التي تتمتع بسمعة طيبة كهذه، ويتحدث عنها الناس بالخير من ورائها، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة تأثير هذه الشخصية، لهذا وددت أن أنقل هذه الرسالة لزاهر المحروقي الذي من سوء حظي لم أتعرف عليه إلا من خلال الانطباعات التي وصلتني عنه، لأقول له بأن تأثيرك كبير جدا سيدي الكريم أكبر بكثير مما تظن، وأنك بتقديمك هذا النموذج الأخلاقي الرائع أنت تؤثر أكثر، في زمن قلت فيه القدوات التي يحتذي بها، وفي زمن ضاقت فيه مساحة الصدق في حياتنا، أمثالك عملات نادرة، و أولئك الذين أثرت فيهم وإن لم يذكروا أمامك لكنهم يعترفون لك في غيابك، وأظن شخصيا أن هذا أكبر دليل على صدق ما يقال عنك، واصل العمل بالإخلاص الذي عرف عنك، حتى لو اختار بعض من حولك عدم الاعتراف لك به، اعلم بان هناك يدا عادلة فوق الجميع، وعد بأن لا يضيع عمل من أحسن عملا، قد تكون مشيئة الله أن لا تكون مكافأة أمثالك بالمناصب والاعتراف الرسميين فلك مني تحية إجلال واحترام وتقدير، وشكرا جزيلا على كل ما تعلمته منك وهو كثير.

 

26‏/05‏/2015

لا شيء يحدث في حياتنا عبثا


لا شيء يحدث في حياتنا عبثا، كل خطوة محسوبة بشكل متناهي الدقة، من قبل عالم الغيب والشهادة، فنحن نضع الخطط والأهداف، ونرسم الأحلام والأمنيات، وفجأة نجد المسار ينحرف بنا بشكل مذهل ودون حتى أن نشعر به أحيانا، فقط لنكتشف أن المسار قد تغير ليوصلنا إلى ما هو أجمل وأروع مما رسمنا لذواتنا، ولا قدرة لنا بلا شك على معرفة حكمة المولى في كثير من أحداث حياتنا، لكننا دائما نبحث عن معنى لما يحدث، منذ أن وقع شيخنا الجليل جزاه الله عنا خير الجزاء، وتغمد روحه بواسع رحمته ومغفرته، وأنا أتفكر في ذلك الانحراف الكبير في اتجاهه، وأستذكر اللحظات التي أعلن فيها بأنه ينوي التقاعد من وظيفته المرموقة في شركة تنمية نفط عمان، ليتجه للتنمية البشرية التي يعشقها، ويبدأ أعماله الخاصة، غبطته حينها على قراره الشجاع ذاك، ولم أدر ولم يدر الشيخ الجليل أن الله اختاره لدور أكبر بكثير من مجرد تحقيق طموح مادي وممارسة شغف يحبه، فالمولى كان يوجهه إلى النشاط الدعوي، وخدمة الاسلام واستغلال شغفه ومعرفته بتقنيات التنمية البشرية، لخدمة دين الله، والشباب المسلم ليس في عمان وحدها ولكن في أية بقعة وجد فيها هذا الشاب.
في السنوات الأخيرة قضى كثيرا من وقته متنقلا بين مطارات العالم، حاملا رسالة الإسلام، رسالة السلام الحقة، داعيا ليس فقط للتسامح الديني وإنما للتعايش بين الأديان، فقد كان يرى أن مجتمعاتنا تتكون من أصحاب ديانات وملل ومعتقدات متعددة شئنا ذلك أم أبينا، نحن من نكون هذا المجتمع، فلا خيار لنا إلا أن نتقبل الآخر، نتعلم منه، نجلس إليه، نسمع له، في الداخل كان يعمل على إثارة الهمم بين الشباب العماني، وتحفيزهم سواء من خلال خطب الجمعة التي كان يتوافد عليها الشباب من كل صوب، أو من خلال محاضراته ودوراته التدريبية، التي كان يزرع من خلالها الأمل في قلوب اليافعين، ويحرض الهمم والعزائم بلغة تحفيزية، رابطا دائما تقنيات التنمية البشرية التي تعلمها برسالة الإسلام الحقة، التي جاءت بكثير من هذه التقنيات حتى قبل أن يعرفها الغرب، فقد كان لديه إيمان قوي بقدرة الشباب العماني على التميز والعطاء، ذات اللغة الإيجابية المحفزة استخدمها لتعريف غير المسلمين بهذا الدين، وكانت النتيجة أعداداً كبيرة من أفراد الجاليات غير المسلمة في السلطنة وجدت النور على يديه، فأسلم على يديه جزاه الله عنا خير الجزاء مئات منهم.
بالنسبة للكثيرين منا وبمختلف مراحلنا العمرية ومستوياتنا الثقافية، كان الشيخ مثلا أعلى وقدوة نحتذي به، في استغلاله لشغفه بالتنمية البشرية، وقناعته الشديدة بها، في إحداث فرق في حياة الكثيرين ممن أتيح لهم الاقتراب منه أو الاطلاع على أعماله، ومنهم كاتبة هذه السطور، حيث كنت في ذلك الوقت قد خصصت هذه المقالة الأسبوعية لمواضيع اقتصادية، فقد كنت أخشى الا يتقبل القراء كتاباتي التحفيزية حينها، خاصة وأنا أقرا الهجوم الشرس من البعض على التنمية البشرية، فشعرت بأنه ربما لم يحن أوانها بعد، إلا أن ما كان يقوم به الشيخ خلفان العيسري، منحني الشجاعة لأسعى أنا أيضا وراء شغفي، لأن الله بالفعل لم يخلقنا عبثا، لكل منا رسالة جاء يؤديها على هذا الكوكب ويرحل بعد أن يؤديها، يحدث أن ينحرف بنا المسار أحيانا ونقبل بخيارات وضعت أمامنا لأسباب عدة، لكن يظل ذلك الصوت القابع فينا يصرخ ليذكرنا، البعض منا يملك الشجاعة للتراجع وتغيير المسار، لأنه اكتشف أن التراجع أحيانا هو منتهى الشجاعة، فالتغيير فعلا يتطلب شجاعة وقوة، لكن البعض يضيع حياته قابلا بواقع كل ذرة في كيانه ترفضه، حتى أن عقله وروحه تتمردان عليه، وقد يتعاون الجسد معها، فتتحول حياته إلى حياة بدون معنى، كئيبة ومملة وفارغة، فلو أن الشيخ رحمه الله رفض أن يصغي لذلك الصوت بداخله، لكان قد رحل عنا اليوم، وقلة ربما خارج حدود عائلته ومعارفه ومجال عمله من سيعرف عنه، وسيكون (مهندسا) آخر يعمل حتى يحين التقاعد وينزوي في داره، لكن مشيئة الله أرادت للشيخ وقبله لهذا الوطن أن يغير واقعه ويستغل الموهبة الربانية التي أنعم الله سبحانه عليه دون غيره، ليكون له هذا التأثير اليوم على جيل الشباب، الذي يكفي أن يتابع القارئ الوشم الذي وضعه الشباب إثر وفاته، ليدرك مقدار التأثير الذي تركه، والذي سيبقيه خالدا في تاريخ هذه الأمة لسنوات طويلة قادمة، بهذا التغيير ترك الشيخ لنا بصمة وترك لنفسه صدقة جارية، في صلاة كل مسلم وجد الهداية على يديه، وذريته من بعده التي ستستمر هي أيضا إلى قدر غير معلوم، هذه الفئة من البشر لا تموت، لأنها باقية في قلوب وعقول الناس من خلال أعمالهم الخالدة، فهنيئا لك شيخنا الجليل على هذه الخاتمة المشرفة التي اختارها لك الكريم المنان.

11‏/05‏/2015

أطفال في ثوب رجال

تفاجأت بها تخبرني بأنها ذهبت لتأدية واجب العزاء في أحد أقربائها خارج العاصمة مسقط، يبدو أنها قرأت الاستنكار على وجهي وهي مشكلتي الأزلية مع هذا الوجه الذي تفضح تعابيره على الدوام ما يختلج في صدري، حتى أنه بدا مرآة واضحة تعكس انفعالاتي، مسببة لي الاحراج أحيانا، فليس كل ما نشعر به يقال، أدرك هذا جيدا طبعا، لذا لم أحاول أن أبرر دهشتي لها، مما حدا بها هي لتبرير تصرفها بأنه حماية (لأطفالها)، وأطفالها هؤلاء طبعا رجال تجاوز البعض منهم منتصف العقد الثاني من العمر، لكنها مازالت تعاملهم معاملة طفل في العاشرة، ولكونهم أطفالا مطيعين فقد استجابوا بأن توقفوا عن النمو فكريا، وباتت تصرفاتهم تعكس المرحلة التي أرادت أن يبقوا فيها حماية لهم، فهم مازالوا يأخذون مصروفهم اليومي منها يأتون برواتبهم نقدا ليسلموها إياها في نهاية الشهر، لتقوم هي بتوزيعها بحكمة أحسدها عليها، هي تمر بظروف صحية أقل ما يقال عنها بأنها قاسية، لكنها أصرت على الذهاب نيابة عن أبنائها، إذ لابد من أن يمثل العائلة شخص على الأقل في تأدية الواجب بحكم صلة القرابة مع المتوفي، ومن المستحيل أن يكون هذا الشخص أحد (أطفالها) فهم لا يعرفون الطريق جيدا، وقد لا يعرفون كيف يتصرفون في السبلة، وهو أمر متوقع لرجل لم يخالط الرجال إلا في بيئة العمل المحدودة وفي إطار أسرته لذا لن يكتسب مهارات اجتماعية، ورجل لم يكن مسموحا له بأن يخرج خارج الحارة إلا برفقتها لفترة طويلة من حياته، لن يعرف حتما كيف يصل إلى مدينة أخرى.
شاب آخر تجاوز الثلاثين من عمره، موظف ورب أسرة، أرسل زوجته للاستفسار عن طريقة انتقال المدد بين صندوق التقاعد الحكومي الخاضع له ونظام التأمينات الاجتماعية، شرحت لها الخطوات فنظرت إلي بحسرة قائلة، إذن لن تضم الخدمة في هذه الحالة، ذلك أن الأمر يتطلب مراجعة دائرة الموارد البشرية في المؤسسة التي يعمل بها، وهو ما لا يملك هذا الرجل الجرأة على القيام به، التعليق صعقني بالفعل، وكان من الممكن أن أعتقد بأن المرأة تتجنى على زوجها، لولا أنني أعرف الرجل والطريقة التي تربى عليها، وبالفعل مرت سبع سنوات على هذه الحادثة دون أن يتقدم الرجل بطلب ضم الخدمة.
استحضرت هذين الموقفين، قبل أيام وأنا أتصفح مع رفيقات لي كتاب كنا نتناقش فيه حول قضايا الشباب، وكيف أن مرحلة الطفولة والشباب هما مرحلة البناء، بناء الطاقات والمهارات، وزراعة القيم والمبادئ والمثل، فيما المراحل العمرية التالية هي مرحلة حصاد ما زرعنا وما بذلنا من جهد في غرس هذه القيم، هكذا أراد لنا المولى وهكذا نشأنا، لكن الآية اليوم باتت معكوسة، فالطفل معفى من أي مسؤولية وأي واجب واي مهمة سوى الفرض المدرسي، والمتعلق دائما وأبدا بالتحصيل الدراسي، ففقدت حياة الشباب المعنى، وبات يعيش فراغا روحيا وفكريا سعى إلى ملأه بالمسكرات والمخدرات وأعمال الشغب، التي وعتها بعض الفئات للأسف الشديد قبل أن نعيها واستغلت هذه الطاقات الشابة في أعمال إرهابية تخلو من المنطق ومن العاطفة على حد سواء، وجد فيها الشباب (المعنى والهدف) الذي تصوره والذي تخلو منه حياته، فاندفع لها بكل ما أوتي من قوة وحماس بمختلف توجهاته الدينية والسياسية والفكرية، فالمتتبع للأشخاص الذين انخرطوا في هذه الأعمال يجد أنهم شباب على درجة عالية جدا من الثقافة والوعي، ينحدرون من أسر ميسورة الحال، وفرت لهم كل أسباب الراحة والرفاهية، وتوفرت لهم أفضل المدارس، لكن كل هذا لم يستطع أن يملأ ذلك الفراغ الذي تركه (الهدف والمعنى)، بسبب الطفولة التي باتت تستمر حتى العقد الثاني من العمر، فأبناؤنا لم يجربوا الحرمان، كما أنهم لم يجربوا العطاء، لأنهم تربوا على ثقافة الأخذ، لذا تجدهم في بيئة العمل يطالبون بما ليس هو في الأصل حقا على أنه حق لهم حتى لو لم يسعوا للفوز به فهم لم يتعودوا على العمل لقاء ما يحصلون عليه لأن طلباتهم كانت مجابة، والأسرة برمة أبيها مسخرة لخدمتهم.
وحتى إن غفلت عن الشاب أعين الإرهابيين تلقفته أيدي مروجي المخدرات، الآفة التي باتت تحصد مع حوادث الطرق شبابنا، فقد كنت في جلسة نسائية قبل أيام وكان الحديث كله تبادل أخبار حول شباب فقدوا حياتهم بسبب هذه الآفة اللعينة، أغلبهم من أسر متماسكة ومترابطة وعلى قدر من الالتزام الديني، لا يغيب الشاب عن ناظرهم إلا نادرا فهو محاط بالرعاية والاهتمام دائما، وتوفرت له كل سبل الراحة، التي لم يجد ضالته فيها، لأنه إنسان جلب على أن يكون له رسالة وهدف ليس بالضرورة ان يكون التحصيل العلمي أحدها، جلب على حب العمل والمشاركة، التي تملأ الفراغ الذي يعيشه والذي يكبر كل يوم مع زيادة معدل الرفاهية من حوله، فضاعت أجيال وستضيع بعدها أجيال أخرى إن لم نع هذا الأمر اليوم ونتداركه.