08‏/06‏/2015

على المنصة

سمعته يقول لزميله انتظر حتى تصعد إلى المنصة، حيث ستختفي هذه الجدية وهذا الوقار، فيها تصبح شخصا آخر تماما عندما تبدأ في الحديث، لم يدهشني تعليق (مبارك) هذا، فقد سمعته كثيرا، فحتى أنا أستغرب من تلك الشخصية التي تتقمصني على المنصة، حتى ليخال إليّ أني امرأة أخرى لا أعرفها تقف مكاني، تلك الليلة كنت في زيارة لجامعة السلطان قابوس لحضور اجتماع برنامج الجامعة للخطابة والقيادة باللغة العربية (الجامعة)، والذي شهدت ولادته الأولى وعاصرت نشأته قبل أن يرى النور كبرنامج، كوني اخترت مجال التنمية البشرية، لتكون مجال عملي التطوعي، والخطابة والقيادة بالذات، بانضمامي لمؤسسة توستماسترز الدولية غير الربحية للخطابة، فعلى مدى ربع قرن من الزمن هي رحلتي المهنية أتيحت لي الفرصة لمقابلة واختبار آلاف الباحثين عن عمل، وكان أكثر ما يؤلمني في هذه المقابلات هو ذلك العجز عن التعبير عن الذات الذي يعاني فيه الغالبية من شبابنا، والمؤلم حقا أن الأمر متفش أكثر في الذكور عنه لدى الإناث، أجزم أن عددا لا بأس به من الكوادر المؤهلة والكفؤة فاتتها فرص وظيفية تستحقها بجدارة، لكن عجز أصحابها عن التسويق لأنفسهم، من خلال فشلهم في الإجابة عن أسئلة المقابلات الشخصية، كنت في كل مرة أتمنى لو كان لدينا برامج معنية لإكساب هذا النوع من المهارات، فإضافة إلى أهميتها في مجال التقدم المهني، فهي لا تقل أهمية عنها في المجال الشخصي، ورغم ذلك فإن الوقوف أمام الجمهور يشكل مصدر قلق مزعجا لفئة كبيرة من الناس، إذ تشير الدراسات إلى أن 80% من الناس لديها شكل من أشكال رهبة مواجهة الجمهور وبدرجات متفاوتة، وكواحدة ممن عانيت في فترة من حياتي من هذا الخوف المزعج، أعمل جاهدة على أن يعرف من يعاني منه متعة الوقوف على منصة والحديث على الملأ، إنها متعة لا تضاهيها متعة، فهي تعطي المرء إحساسا بالحرية، الذي يعقب تغلبه على خوفه، والذي على فكرة موجود بدرجات متفاوتة عند أفضل المتحدثين، فالرهبة لا تختفي أبدا، مهما بلغت درجة تمكن المرء من خطبته، ومهما بلغت درجة ثقته بنفسه، تبقى مساحة من الرهبة موجودة، لكن الشعور بالتحرر من تلك الرهبة شعور رائع فعلا، ويستحق العناء، فعلى الرغم من أن الكتابة هي شغف أمارسه كهواية بالدرجة الأولى، لكن متعة الوقوف على المنصة تمنحني شعوراً عارما بالرضا أكبر بكثير من تلك التي تمنحني إياها الكتابة، ولعل ذلك يعود إلى كون الكتابة لا تمنحني فرصة رؤية التأثير على القارئ. فأنا لا أعرف من الذي يقرأ ما أكتب، وما إذا كانت كتاباتي تجد صدى لدى الآخرين، في حين أن الحديث المباشر مع جمهور يجعلني أستشعر قوة هذا التأثير بشكل مباشر، إعجابا، ضجرا، تأثرا، أو حتى لا مبالاة، فيسعفني الوقت لأصوب أدائي مباشرة، وأستشعر مع جمهوري تأثير ما أقول، أفرح جدا عندما أرى العيون متسمرة على المنصة، وتزداد سعادتي وأنا أقرأ التأثر على ملامح الناس التي تتلقى ما أقول، ولهذا ربما أعجز عن تصنع الجدية في خطاباتي، حتى الرسمية منها، رغم محاولاتي الدؤوبة في ذلك، وفي كثير من الأحيان فإن نوعية الجمهور ذاتها تفرض على المتحدث طريقة الأداء، فقبل أشهر دعيت إلى فعالية كان المتحدثون فيها نخبة من المثقفين والأدباء العمانيين، إلا أن الحضور على ما يبدو لم يكن حسب المتوقع مما حدا بالمنظمين إلى الاستعانة بمدارس الولاية لتعبئة المقاعد الخالية، صعدت المنصة فوجدت أمامي قاعة تمتلئ بأطفال ضجروا من الاستماع على مدى ساعات إلى موضوعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، عجزت حتى أنا أحيانا في فهمها، جهلا مني طبعا بالموضوعات التي اتخذت الطابع الفني البحت، رغم كوني قد وعدت نفسي بأن أكون أكثر جدية ورسمية كما هو متوقع مني في مثل هذا الموقف، إلا أن نظرات الصغار جعلت ذلك المارد الصغير يخرج رغما عني، حرصت طوال الوقت ألا تلتقي عيناي بعيون أي من الكبار الذين كانوا يشغلون الصفوف الأمامية، والتركيز على الصغار التي كانت ضحكاتهم، ونظراتهم المتحمسة تمدني بالقوة، فالصغار لم يخيبوا ظني على الإطلاق، جعلوني أنسى أن في القاعة غيرهم، وأردت أن أرد لهم الجميل ولا أخيب ظنهم فيّ، محدثة نفسي أن الكبار قد حظوا بما يكفي من الأوراق التي قدمت ذلك اليوم، أثناء خروجي من المسرح في نهاية الفعالية، رأيت الصغار يتحلقون حولي شاكرين لي عرضي، تقدمت إحدى الصغيرات واحتضنتني بحب قائلة: كنت رائعة أستاذة، ورقتك الوحيدة التي فهمناها، مثل ردود الأفعال هذه من المستحيل أن تمنحك إياها الكتابة، الأمر الذي يجعل مصارعة بعبع الخوف من مواجهة الجمهور يستحق كل العناء، قد لا يكون السبيل إلى ذلك سهلا، لكن كما تقول الحكمة العمانية الدارجة (وجع يوم ولا وجع دوم).

ليست هناك تعليقات: