بالنسبة للكثيرين فإن العمل لا يتعدى أن يكون إثبات حضور وانصراف في الوقت المحدد، بغض النظر عن كيف تقضى الساعات الواقعة بينها، لهذا تقضي هذه الفئة من الموظفين حياتها المهنية في إحباط دائم، ومعنويات منخفضة، وشعور دائم بعدم الرضا، ذلك أن الانسان بطبيعة الحال ولد على الفطرة السوية التي تأبى في الغالب السلوكيات غير السوية، حتى وإن حاولنا إنكار ذلك، والعكس دائما صحيح، اذ أن الانسان المنتج تجده راضيا سعيدا، فالشعور بالانجاز يولد تقدير ذات مرتفع، وثقة عالية بالنفس، تتحول إلى دافع قوي للإنتاج والتميز، ذلك أن المنتج يكون منشغلا طوال الوقت بعمله والتركيز على أهدافه الذي يشغل حيزا كبيرا من تفكيره فلا يدع له مجالا للتفكير السلبي، وعلى العكس تماما بالنسبة لمن يقضي طوال يومه واضعا يده على خده، متنقلا بين أروقة المكاتب بلا هدف، أو متسمرا على مكتبه بلا عمل، مما يجعل عقله عشا للمشاعر السلبية، من غيره وحسد، وغضب، إلى شعور بانعدام الثقة والاحباط من مراقبة من حوله وهم يصعدون سلم الوظيفة بخطى سريعة، والمشاعر السلبية هي في الحقيقة عدو النجاح الأوحد، فهي تعمل كالقيود التي تقيد صاحبها وتمنعه من الانطلاق نحو أهدافه، ويتفق علماء النفس بأن الشعور بالانجاز مطلب بشري فطري، يؤدي إلى شعور بالسعادة والرضا، وربما هذا مايفسر تسخير البعض حياته من أجل العمل، الذي يرتبط بالنمو الشخصي، نتيجة اكتساب مهارات ومعارف جديدة، وبناء للقدرات، وبالنسبة لهؤلاء فإن العمل دائما مرتبط بهدف واضح يسعى المرء منهم لتحقيقه، يتعدى أن يكون هذا الهدف راتب آخر الشهر الذي غالبا مايكون هو هدف تلك الفئة التي تحدثنا عنها في مستهل هذا المقال، وطالما وجد الهدف أصبح لكل مانعمل معنى، ومتى غاب الهدف تحولت الحياة إلى سلسلة من الصدف، والخطوات غير المدروسة التي لانعرف إلى أين ستأخذنا، وهو مايولد هذا الاحساس بعدم الأمان التي تعيشه هذه الفئة، التي غالبا مايكون مصيرها متروكا للصدف، وهو شعور قاتل بلاشك، ولعل من جرب هذا الشعور وحده من يعي مقدار الألم والضياع الذي ينتج عنه، مهما حاول البعض أن يبرر ويدافع عن موقفه هذا تجاه عمله، والذي غالبا ما يبرر أسبابه بالعوامل المحيطة به، ويتظاهر بأن لايد له فيها، ويلقي باللوم دائما على المحيطين به، وعلى الظروف، فلا يزيده ذلك إلا إحباطا وألما، لأن التنصل من المسؤولية تجاه الذات، وترك مصيرك للآخرين يسيرونه هو بداية الفشل، لذا فدائما مايعرف النجاح بأنه (المسؤولية) وأخذ زمام الأمور في حياتك، وليس أقلها الحياة المهنية التي يقضي المرء منا مايزيد عن نصف حياته فيها، فمتى ماصلحت صلحت الحياة، ومتى مافسدت فسدت الحياة برمتها، في تفسير الامام الشعراوي رحمه الله لسورة البقرة، أذكر بأنه قال بما معناه أن الله سبحانه خلقنا ووضعنا على هذا الكوكب لغاية، لذا فإنه جلت قدرته سخر لنا مافي السموات والأرض ومابينهما لنعمل فيها الفكر ونستخرج النعم التي وضعها المولى فيها، من خلال معجزة العقل البشري الذي خصنا به دون سوانا، إذ أنه وضع لنا بداية الأشياء الأساسية والضرورية لبقاء الحياة ووزعها بيننا بالتساوي كالشمس والهواء، والبعض منها يتطلب قليلا من الجهد للحصول عليه كالماء والطعام، وما زاد عن ذلك تركه لجهد وإجتهاد العبد، يغترف منه لتحقيق الرفاهية التي ينشد، لذا كان دائما الجزاء من جنس العمل خيرا وشرا، فتقصير المرء منا في أداء واجباته الوظيفية حتما سيكون جزاؤها الحرمان من الرفاهية المتمثلة في النجاح المهني والتفوق، والذي يجلب معه دخلا عاليا، ومن عجائب خلق الله لهذا الكون أن وضع له قوانين ثابتة تسيره بدقة متناهية، كدوران الأرض حول الشمس بمسافة محسوبة بدقة، فلو اقتربت الأرض قاب قوسين أو أدنى لتحول كوكبنا إلى رماد منثور، ولأصبح قطعة ثلج إن ابتعدت الأرض قيد شعرة عن الشمس، هكذا هي حياة الانسان تسيرها قوانين ثابتة لا تتغير، حرصا من رب الكون على حفظ هذا التوازن، والعمل الذي نؤديه ليس استثناء من هذه القاعدة، فالانسان مطالب بإنجاز عمله على أكمل وجه، ويكون جزاء هذا الاتقان توفيق من المولى، والعكس هو الصحيح، فمن يقصر في عمله يستقطع لنفسه حقا ليس له، فلابد في هذه الحالة من رد حق اكتسب من غير وجه حق إلى مستحقيه، ليتحقق بذلك التوازن، فإن أنا كسبت راتب لم أعمل من أجله، ثق ايها القارئ الكريم بأن الله العدل سيسترد هذا الحق عاجلا أم آجلا، بطريقة أو بأخرى، كأن يصيدني رادار أثناء خروجي من عملي، أو أتعرض لحادث سير، أو ربما أعود لأجد فرد من الاسرة متوعكا فاضطر أن أخذه لعيادة أو اشتري له الدواء، أمور لا نتفكر فيها كثيرا عندما تحدث لنا، لكنها عدالة السماء التي لا تترك أحدا، الامام الشعراوي جزاه الله عنا خير الجزاء يقول: عندما ترى شخصا شاكيا فاعلم أنه مشتكى، فالله يمهل لكنه لايهمل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق