26‏/05‏/2015

لا شيء يحدث في حياتنا عبثا


لا شيء يحدث في حياتنا عبثا، كل خطوة محسوبة بشكل متناهي الدقة، من قبل عالم الغيب والشهادة، فنحن نضع الخطط والأهداف، ونرسم الأحلام والأمنيات، وفجأة نجد المسار ينحرف بنا بشكل مذهل ودون حتى أن نشعر به أحيانا، فقط لنكتشف أن المسار قد تغير ليوصلنا إلى ما هو أجمل وأروع مما رسمنا لذواتنا، ولا قدرة لنا بلا شك على معرفة حكمة المولى في كثير من أحداث حياتنا، لكننا دائما نبحث عن معنى لما يحدث، منذ أن وقع شيخنا الجليل جزاه الله عنا خير الجزاء، وتغمد روحه بواسع رحمته ومغفرته، وأنا أتفكر في ذلك الانحراف الكبير في اتجاهه، وأستذكر اللحظات التي أعلن فيها بأنه ينوي التقاعد من وظيفته المرموقة في شركة تنمية نفط عمان، ليتجه للتنمية البشرية التي يعشقها، ويبدأ أعماله الخاصة، غبطته حينها على قراره الشجاع ذاك، ولم أدر ولم يدر الشيخ الجليل أن الله اختاره لدور أكبر بكثير من مجرد تحقيق طموح مادي وممارسة شغف يحبه، فالمولى كان يوجهه إلى النشاط الدعوي، وخدمة الاسلام واستغلال شغفه ومعرفته بتقنيات التنمية البشرية، لخدمة دين الله، والشباب المسلم ليس في عمان وحدها ولكن في أية بقعة وجد فيها هذا الشاب.
في السنوات الأخيرة قضى كثيرا من وقته متنقلا بين مطارات العالم، حاملا رسالة الإسلام، رسالة السلام الحقة، داعيا ليس فقط للتسامح الديني وإنما للتعايش بين الأديان، فقد كان يرى أن مجتمعاتنا تتكون من أصحاب ديانات وملل ومعتقدات متعددة شئنا ذلك أم أبينا، نحن من نكون هذا المجتمع، فلا خيار لنا إلا أن نتقبل الآخر، نتعلم منه، نجلس إليه، نسمع له، في الداخل كان يعمل على إثارة الهمم بين الشباب العماني، وتحفيزهم سواء من خلال خطب الجمعة التي كان يتوافد عليها الشباب من كل صوب، أو من خلال محاضراته ودوراته التدريبية، التي كان يزرع من خلالها الأمل في قلوب اليافعين، ويحرض الهمم والعزائم بلغة تحفيزية، رابطا دائما تقنيات التنمية البشرية التي تعلمها برسالة الإسلام الحقة، التي جاءت بكثير من هذه التقنيات حتى قبل أن يعرفها الغرب، فقد كان لديه إيمان قوي بقدرة الشباب العماني على التميز والعطاء، ذات اللغة الإيجابية المحفزة استخدمها لتعريف غير المسلمين بهذا الدين، وكانت النتيجة أعداداً كبيرة من أفراد الجاليات غير المسلمة في السلطنة وجدت النور على يديه، فأسلم على يديه جزاه الله عنا خير الجزاء مئات منهم.
بالنسبة للكثيرين منا وبمختلف مراحلنا العمرية ومستوياتنا الثقافية، كان الشيخ مثلا أعلى وقدوة نحتذي به، في استغلاله لشغفه بالتنمية البشرية، وقناعته الشديدة بها، في إحداث فرق في حياة الكثيرين ممن أتيح لهم الاقتراب منه أو الاطلاع على أعماله، ومنهم كاتبة هذه السطور، حيث كنت في ذلك الوقت قد خصصت هذه المقالة الأسبوعية لمواضيع اقتصادية، فقد كنت أخشى الا يتقبل القراء كتاباتي التحفيزية حينها، خاصة وأنا أقرا الهجوم الشرس من البعض على التنمية البشرية، فشعرت بأنه ربما لم يحن أوانها بعد، إلا أن ما كان يقوم به الشيخ خلفان العيسري، منحني الشجاعة لأسعى أنا أيضا وراء شغفي، لأن الله بالفعل لم يخلقنا عبثا، لكل منا رسالة جاء يؤديها على هذا الكوكب ويرحل بعد أن يؤديها، يحدث أن ينحرف بنا المسار أحيانا ونقبل بخيارات وضعت أمامنا لأسباب عدة، لكن يظل ذلك الصوت القابع فينا يصرخ ليذكرنا، البعض منا يملك الشجاعة للتراجع وتغيير المسار، لأنه اكتشف أن التراجع أحيانا هو منتهى الشجاعة، فالتغيير فعلا يتطلب شجاعة وقوة، لكن البعض يضيع حياته قابلا بواقع كل ذرة في كيانه ترفضه، حتى أن عقله وروحه تتمردان عليه، وقد يتعاون الجسد معها، فتتحول حياته إلى حياة بدون معنى، كئيبة ومملة وفارغة، فلو أن الشيخ رحمه الله رفض أن يصغي لذلك الصوت بداخله، لكان قد رحل عنا اليوم، وقلة ربما خارج حدود عائلته ومعارفه ومجال عمله من سيعرف عنه، وسيكون (مهندسا) آخر يعمل حتى يحين التقاعد وينزوي في داره، لكن مشيئة الله أرادت للشيخ وقبله لهذا الوطن أن يغير واقعه ويستغل الموهبة الربانية التي أنعم الله سبحانه عليه دون غيره، ليكون له هذا التأثير اليوم على جيل الشباب، الذي يكفي أن يتابع القارئ الوشم الذي وضعه الشباب إثر وفاته، ليدرك مقدار التأثير الذي تركه، والذي سيبقيه خالدا في تاريخ هذه الأمة لسنوات طويلة قادمة، بهذا التغيير ترك الشيخ لنا بصمة وترك لنفسه صدقة جارية، في صلاة كل مسلم وجد الهداية على يديه، وذريته من بعده التي ستستمر هي أيضا إلى قدر غير معلوم، هذه الفئة من البشر لا تموت، لأنها باقية في قلوب وعقول الناس من خلال أعمالهم الخالدة، فهنيئا لك شيخنا الجليل على هذه الخاتمة المشرفة التي اختارها لك الكريم المنان.

ليست هناك تعليقات: