أخذنا موقعنا وصديقة طفولتي على أعلى كثيب رملي ذلك المساء الشتوي، وشرعنا نستذكر ذكريات الطفولة الأولى في بلدتنا التي احتضنتنا (سيوحها) صغارا، كنت اتأمل حبيبات الرمل الحمراء وهي تنساب بين أصابعي كشلال من الذهب مبهورة بذلك الجمال الذي طالما ملك شغاف روحي، والذي كان لديه القدرة لإخراج الطفلة بداخلي كما لا يستطيع أي منظر طبيعي آخر أن يفعل، لم اشعر به يقترب منا، حتى وقف قبالتي، ابتسم لنا بحب قائلا: ما رأيكن أن نتسابق على تسلق هذه الكثبان، ألقيت نظرة حولي وعدت أتفحص وجه خالي الحبيب مرة أخرى لأرى ما إذا كان جادا في عرضه ذاك، لكني وجدت عيناه تنظران إلينا بتحد، وعلت وجهه ابتسامة أدرك مغزاها جيدا، عدت مرة أخرى ونظرت حولي، ولم أجد سوى سلسلة من التلال الرملية، التي وجدت صعوبة في المشي على ترابها الناعم الذي كانت رجلاي تغوصان فيه، فأجد صعوبة في إكمال الخطوة التالية، كنت أعرف بأنني بصدد دخول سباق غير عادل، لكنني عنيدة عناد الصحراء الذي نشأت فيها، فوجدتني أنظر إلى رفيقتي أومأت إليها بالنهوض، قفزت على الفور ووقفنا بمحاذاة خالي الستيني، الذي ابتسم ابتسامة تحد قبل أن يأذن ببداية السباق، لم تمض أكثر من ثلاث دقائق على بدء السباق حتى أعلنا الاستسلام، وسقطنا مكاننا، فيما كانت عيوننا تراقبه وهو يركض بخفة على تلك الرمال، التي لم يفقد صلته بها كما فعلنا.
كنت أعرف تماما مغزى تلك الدعوة للسباق، فلم يكن معنيا بمسابقتنا لأنه كان يدرك بأنه سباق غير عادل، لكنها كانت رسالة بأنه غير راض عن الوضع الذي وصلنا له أنا وابنة خالتي العزيزة من بدانة وفقدان اللياقة، وهو أمر يكرهه كثيرا في أفراد عائلته، الرسالة وصلت لكلينا، وبشكل ماكان ممكنا أن نتجاهلها ، وماكان ممكنا أن ننساها أيضا، فلدى خالي العزيز أسلوبه الفريد في النصح والتوجيه، فنادرا ما سمعته يوجه النصح المباشر، فقد كان يؤمن بالفعل أكثر من إيمانه بالقول، وعمل طوال حياته على أن يكون قدوة ومثلا أعلى لأفراد العائلة، سواء في الالتزام بالنظام الصحي المتوازن أو بثبات المبادئ والقيم، هو الذي ظل حتى آخر يوم من حياة جدتي يرفض أن يقبل رأسها كما كان يفعل بقية أفراد العائلة عندما يدخل غرفتها كل صباح ملقيا عليها التحية، بل كان يخر تحت قدميها.
شخصيا لا تتاح لي رؤيته كثيرا بسبب إقامتي بعيدا عن الأسرة، لكن نادرا ما التقيت به دون أن أحمل معي درسا قيما يحفر في الذاكرة، فلديه كما قلت اسلوبه الفريد الذي لا يشعرك بأنه ينصح أو يوجه، أذكر قبل سنوات أثناء زيارة لي لمنزله أنني كنت أتحدث إلى بناته، وحدث أن كان الحديث حول زوجي ذلك اليوم، أذكر يومها أنني عقبت على كلام النساء اللائي كن يثنين على زوجي بالقول: نعم أنا ممتنة للمولى الذي رزقني زوجا رائعا، إنه استثنائي بحق، كان خالي العزيز يعبر الممر حين استوقفته العبارة فعاد أدراجه، أدخل رأسه من باب الغرفة ونظر إليَّ معاتبا: لا أريد أن أسمع منك هذه الكلمة مرة أخرى يا بنت سعيد، كنت أظن بأنه أساء فهمي فشرعت بالدفاع عن نفسي لكنه كان اسرع مني فقال معقبا: أنت الرائعة وأنت الاستثنائية، وتذكري دائما بأنه عندما يعاملك أحدهم معاملة رائعة فهذا لأنك تستحقينها، زوجك ليس رائعا، بل أنت الرائعة، قالها وغادر قبل أن يعطيني فرصة للتعليق، فكانت عبارة غيرت مجرى حياتي، والطريقة التي أنظر بها إلى نفسي و الآخرين، عبارة واحده لا أكثر، قيلت في الوقت المناسب، والصيغة المناسبة، حفرت لها مكانا دائما في القلب والذاكرة لن يمحى، وكذلك هي جميع توجيهات ونصائح هذا الرجل الاستثنائي الذي لم يعاملني يوما كطفلة حتى في سنوات طفولتي الاولى، فقد كان يحترمني كثيرا، يقتطع دائما وقتا للجلوس معي أثناء زيارتي لمنزل العائلة ليحاورني ويناقشني في مواضيع شتى، فقد أخذت من والدي ومن أخوالي شغفي بالكتب، وكانت طريقته في تعزيز روح القراءة فينا نحن الصغار بأن يشاركنا رأيه فيما نقرأ، حتى لو كان فهمنا للكتاب الذي قرأنا مغلوطا بحكم المرحلة العمرية، إلا أنه كان لديه أسلوبه المميز في لفت انتباهنا للمعنى الذي قصده الكاتب، عندما جاءتني البعثة الدراسية للولايات المتحدة الأمريكية تفاجأت به يقف في صف والدي بحزم في قراره بأن يسمح لي بالسفر للدراسة بالخارج، مكررا ما سبق لوالدي أن قاله بشأن عدم الاكتراث بما يقوله الناس، وبأنه بعد مدة سأكون قدوة يحتذى بها، وسأشق طريقا لبنات جيلي بتلك الخطوة الجريئة، أستذكر هذا الرجل كثيرا هذه الأيام – أطال الله في عمره – وأنا أعيش ذكرى وفاة والدي الذي أشعر دائما بأنه امتداد له، في شبهه الشديد به في اعتداده بنفسه وبأفراد اسرته، وبرفضه الانصياع لما يسمى بالتقاليد البالية، وبحرصه أن يكون مثلا أعلى وقدوة يحتذى بها قولا وفعلا قبل أن يشرع في توزيع النصائح المجانية كما يفعل بعض المربين والتي تتعارض بشدة مع سلوكياتهم الفردية، متوقعين أن تجد نصائحهم هذه صدى لدى متلقيها، لكن هيهات، فالفعل حقا أقوى تأثيرا من القول.
كنت أعرف تماما مغزى تلك الدعوة للسباق، فلم يكن معنيا بمسابقتنا لأنه كان يدرك بأنه سباق غير عادل، لكنها كانت رسالة بأنه غير راض عن الوضع الذي وصلنا له أنا وابنة خالتي العزيزة من بدانة وفقدان اللياقة، وهو أمر يكرهه كثيرا في أفراد عائلته، الرسالة وصلت لكلينا، وبشكل ماكان ممكنا أن نتجاهلها ، وماكان ممكنا أن ننساها أيضا، فلدى خالي العزيز أسلوبه الفريد في النصح والتوجيه، فنادرا ما سمعته يوجه النصح المباشر، فقد كان يؤمن بالفعل أكثر من إيمانه بالقول، وعمل طوال حياته على أن يكون قدوة ومثلا أعلى لأفراد العائلة، سواء في الالتزام بالنظام الصحي المتوازن أو بثبات المبادئ والقيم، هو الذي ظل حتى آخر يوم من حياة جدتي يرفض أن يقبل رأسها كما كان يفعل بقية أفراد العائلة عندما يدخل غرفتها كل صباح ملقيا عليها التحية، بل كان يخر تحت قدميها.
شخصيا لا تتاح لي رؤيته كثيرا بسبب إقامتي بعيدا عن الأسرة، لكن نادرا ما التقيت به دون أن أحمل معي درسا قيما يحفر في الذاكرة، فلديه كما قلت اسلوبه الفريد الذي لا يشعرك بأنه ينصح أو يوجه، أذكر قبل سنوات أثناء زيارة لي لمنزله أنني كنت أتحدث إلى بناته، وحدث أن كان الحديث حول زوجي ذلك اليوم، أذكر يومها أنني عقبت على كلام النساء اللائي كن يثنين على زوجي بالقول: نعم أنا ممتنة للمولى الذي رزقني زوجا رائعا، إنه استثنائي بحق، كان خالي العزيز يعبر الممر حين استوقفته العبارة فعاد أدراجه، أدخل رأسه من باب الغرفة ونظر إليَّ معاتبا: لا أريد أن أسمع منك هذه الكلمة مرة أخرى يا بنت سعيد، كنت أظن بأنه أساء فهمي فشرعت بالدفاع عن نفسي لكنه كان اسرع مني فقال معقبا: أنت الرائعة وأنت الاستثنائية، وتذكري دائما بأنه عندما يعاملك أحدهم معاملة رائعة فهذا لأنك تستحقينها، زوجك ليس رائعا، بل أنت الرائعة، قالها وغادر قبل أن يعطيني فرصة للتعليق، فكانت عبارة غيرت مجرى حياتي، والطريقة التي أنظر بها إلى نفسي و الآخرين، عبارة واحده لا أكثر، قيلت في الوقت المناسب، والصيغة المناسبة، حفرت لها مكانا دائما في القلب والذاكرة لن يمحى، وكذلك هي جميع توجيهات ونصائح هذا الرجل الاستثنائي الذي لم يعاملني يوما كطفلة حتى في سنوات طفولتي الاولى، فقد كان يحترمني كثيرا، يقتطع دائما وقتا للجلوس معي أثناء زيارتي لمنزل العائلة ليحاورني ويناقشني في مواضيع شتى، فقد أخذت من والدي ومن أخوالي شغفي بالكتب، وكانت طريقته في تعزيز روح القراءة فينا نحن الصغار بأن يشاركنا رأيه فيما نقرأ، حتى لو كان فهمنا للكتاب الذي قرأنا مغلوطا بحكم المرحلة العمرية، إلا أنه كان لديه أسلوبه المميز في لفت انتباهنا للمعنى الذي قصده الكاتب، عندما جاءتني البعثة الدراسية للولايات المتحدة الأمريكية تفاجأت به يقف في صف والدي بحزم في قراره بأن يسمح لي بالسفر للدراسة بالخارج، مكررا ما سبق لوالدي أن قاله بشأن عدم الاكتراث بما يقوله الناس، وبأنه بعد مدة سأكون قدوة يحتذى بها، وسأشق طريقا لبنات جيلي بتلك الخطوة الجريئة، أستذكر هذا الرجل كثيرا هذه الأيام – أطال الله في عمره – وأنا أعيش ذكرى وفاة والدي الذي أشعر دائما بأنه امتداد له، في شبهه الشديد به في اعتداده بنفسه وبأفراد اسرته، وبرفضه الانصياع لما يسمى بالتقاليد البالية، وبحرصه أن يكون مثلا أعلى وقدوة يحتذى بها قولا وفعلا قبل أن يشرع في توزيع النصائح المجانية كما يفعل بعض المربين والتي تتعارض بشدة مع سلوكياتهم الفردية، متوقعين أن تجد نصائحهم هذه صدى لدى متلقيها، لكن هيهات، فالفعل حقا أقوى تأثيرا من القول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق