11‏/05‏/2015

أطفال في ثوب رجال

تفاجأت بها تخبرني بأنها ذهبت لتأدية واجب العزاء في أحد أقربائها خارج العاصمة مسقط، يبدو أنها قرأت الاستنكار على وجهي وهي مشكلتي الأزلية مع هذا الوجه الذي تفضح تعابيره على الدوام ما يختلج في صدري، حتى أنه بدا مرآة واضحة تعكس انفعالاتي، مسببة لي الاحراج أحيانا، فليس كل ما نشعر به يقال، أدرك هذا جيدا طبعا، لذا لم أحاول أن أبرر دهشتي لها، مما حدا بها هي لتبرير تصرفها بأنه حماية (لأطفالها)، وأطفالها هؤلاء طبعا رجال تجاوز البعض منهم منتصف العقد الثاني من العمر، لكنها مازالت تعاملهم معاملة طفل في العاشرة، ولكونهم أطفالا مطيعين فقد استجابوا بأن توقفوا عن النمو فكريا، وباتت تصرفاتهم تعكس المرحلة التي أرادت أن يبقوا فيها حماية لهم، فهم مازالوا يأخذون مصروفهم اليومي منها يأتون برواتبهم نقدا ليسلموها إياها في نهاية الشهر، لتقوم هي بتوزيعها بحكمة أحسدها عليها، هي تمر بظروف صحية أقل ما يقال عنها بأنها قاسية، لكنها أصرت على الذهاب نيابة عن أبنائها، إذ لابد من أن يمثل العائلة شخص على الأقل في تأدية الواجب بحكم صلة القرابة مع المتوفي، ومن المستحيل أن يكون هذا الشخص أحد (أطفالها) فهم لا يعرفون الطريق جيدا، وقد لا يعرفون كيف يتصرفون في السبلة، وهو أمر متوقع لرجل لم يخالط الرجال إلا في بيئة العمل المحدودة وفي إطار أسرته لذا لن يكتسب مهارات اجتماعية، ورجل لم يكن مسموحا له بأن يخرج خارج الحارة إلا برفقتها لفترة طويلة من حياته، لن يعرف حتما كيف يصل إلى مدينة أخرى.
شاب آخر تجاوز الثلاثين من عمره، موظف ورب أسرة، أرسل زوجته للاستفسار عن طريقة انتقال المدد بين صندوق التقاعد الحكومي الخاضع له ونظام التأمينات الاجتماعية، شرحت لها الخطوات فنظرت إلي بحسرة قائلة، إذن لن تضم الخدمة في هذه الحالة، ذلك أن الأمر يتطلب مراجعة دائرة الموارد البشرية في المؤسسة التي يعمل بها، وهو ما لا يملك هذا الرجل الجرأة على القيام به، التعليق صعقني بالفعل، وكان من الممكن أن أعتقد بأن المرأة تتجنى على زوجها، لولا أنني أعرف الرجل والطريقة التي تربى عليها، وبالفعل مرت سبع سنوات على هذه الحادثة دون أن يتقدم الرجل بطلب ضم الخدمة.
استحضرت هذين الموقفين، قبل أيام وأنا أتصفح مع رفيقات لي كتاب كنا نتناقش فيه حول قضايا الشباب، وكيف أن مرحلة الطفولة والشباب هما مرحلة البناء، بناء الطاقات والمهارات، وزراعة القيم والمبادئ والمثل، فيما المراحل العمرية التالية هي مرحلة حصاد ما زرعنا وما بذلنا من جهد في غرس هذه القيم، هكذا أراد لنا المولى وهكذا نشأنا، لكن الآية اليوم باتت معكوسة، فالطفل معفى من أي مسؤولية وأي واجب واي مهمة سوى الفرض المدرسي، والمتعلق دائما وأبدا بالتحصيل الدراسي، ففقدت حياة الشباب المعنى، وبات يعيش فراغا روحيا وفكريا سعى إلى ملأه بالمسكرات والمخدرات وأعمال الشغب، التي وعتها بعض الفئات للأسف الشديد قبل أن نعيها واستغلت هذه الطاقات الشابة في أعمال إرهابية تخلو من المنطق ومن العاطفة على حد سواء، وجد فيها الشباب (المعنى والهدف) الذي تصوره والذي تخلو منه حياته، فاندفع لها بكل ما أوتي من قوة وحماس بمختلف توجهاته الدينية والسياسية والفكرية، فالمتتبع للأشخاص الذين انخرطوا في هذه الأعمال يجد أنهم شباب على درجة عالية جدا من الثقافة والوعي، ينحدرون من أسر ميسورة الحال، وفرت لهم كل أسباب الراحة والرفاهية، وتوفرت لهم أفضل المدارس، لكن كل هذا لم يستطع أن يملأ ذلك الفراغ الذي تركه (الهدف والمعنى)، بسبب الطفولة التي باتت تستمر حتى العقد الثاني من العمر، فأبناؤنا لم يجربوا الحرمان، كما أنهم لم يجربوا العطاء، لأنهم تربوا على ثقافة الأخذ، لذا تجدهم في بيئة العمل يطالبون بما ليس هو في الأصل حقا على أنه حق لهم حتى لو لم يسعوا للفوز به فهم لم يتعودوا على العمل لقاء ما يحصلون عليه لأن طلباتهم كانت مجابة، والأسرة برمة أبيها مسخرة لخدمتهم.
وحتى إن غفلت عن الشاب أعين الإرهابيين تلقفته أيدي مروجي المخدرات، الآفة التي باتت تحصد مع حوادث الطرق شبابنا، فقد كنت في جلسة نسائية قبل أيام وكان الحديث كله تبادل أخبار حول شباب فقدوا حياتهم بسبب هذه الآفة اللعينة، أغلبهم من أسر متماسكة ومترابطة وعلى قدر من الالتزام الديني، لا يغيب الشاب عن ناظرهم إلا نادرا فهو محاط بالرعاية والاهتمام دائما، وتوفرت له كل سبل الراحة، التي لم يجد ضالته فيها، لأنه إنسان جلب على أن يكون له رسالة وهدف ليس بالضرورة ان يكون التحصيل العلمي أحدها، جلب على حب العمل والمشاركة، التي تملأ الفراغ الذي يعيشه والذي يكبر كل يوم مع زيادة معدل الرفاهية من حوله، فضاعت أجيال وستضيع بعدها أجيال أخرى إن لم نع هذا الأمر اليوم ونتداركه.

ليست هناك تعليقات: