راشد هو أخي الصغير، آخر العنقود، دلوع العائلة، أو هكذا كنت أنظر إليه قبل أن يعطيني درسا كبيرا في رسوخ المبادئ ومتانة القيم، حدث هذا في إجازة عيد الفطر الماضي عندما عرض أن يصطحبنا في رحلة إلى الإمارات أنا وطفلتي وأخ آخر وأسرتيهما، حجزنا خلال الرحلة شقة في فندق روتانا الفجيرة، وضعنا فيها أغراضنا الشخصية وقررنا تمضية الأمسية على شاطئ البحر، من أجل ذلك اقترحت زوجته (استعارة) سكين من مطبخ الفندق لتقطيع الفواكه بها، وهذا ما حدث، لكن السكين بقيت مع الأغراض الأخرى في السيارة، ولم ندرك ذلك قبل أن تذكره زوجته بالسكين وتسأله إن كان قد أعادها بعد تركنا للفندق بساعات، سؤال أجاب عليه بالنفي، عندما لمحت نظرة قلق في عينه هونت عليه الأمر بأنها مجرد سكين صغيرة لن يلاحظ أحد غيابها، ثم أنه لم يتعمد أخذها وعليه نسيان الأمر، كنا على حدود السلطنة وعلى وشك الوصول إلى ولاية محضة، فخشيت أن يقرر العودة بنا إلى الفندق لإعادة السكين عندما رأيته يخفف السرعة ويوقف السيارة، فواصلت محاولتي تهدئة روعه والتقليل من شأن السكين التافه، لكنه وكأنه لم يسمع ما كنت أقول ألقى نظرة على الأطفال الذين كانوا يجلسون في المقعد الخلفي ومن ضمنهم طفلته ذات الأربع سنوات، وابن أخي الآخر ذو العشر سنوات وابنتي، ثم تناول الهاتف واتصل بمدير الفندق متجاهلا نصائحي بعدم تكبير الموضوع، كما توقعت هون عليه المدير ودعاه إلى عدم الاكتراث بالأمر! نظرت إليه وهو يتنفس الصعداء بعد انتهاء المكالمة، ثم ألقيت نظرة على الأطفال الذي كانت عيونهم وأذانهم الصغيرة تتابع المشهد بفضول طفولي، لوهلة شعرت بالخجل منهم، لكنني حتما في تلك اللحظة شعرت بالفخر بأخي الصغير، وحمدت المولى أنه لم يستمع إلى (وسوستي) له، إذ لا اشك أن الصغار حملوا معهم ذلك اليوم درسا قيما في رسوخ المبادئ كما حملته أنا أيضا، التي كنت أعتبر نفسي حتى تلك اللحظة القدوة لإخوتي الذين يصغرونني سنا، لكنني فشلت في الامتحان ذلك اليوم أمامهم الأمر الذي أعاد إلى ذاكرتي (فشلا) آخر قبل سنوات، وكان أول عهدي بأعمال الفيلسوف وخبير التنمية البشرية الأمريكي جيم روهن، من خلال شريط سمعي وضعته في مكتبتي المتنقلة في السيارة، تضمن الشريط في بدايته اختباراً صغيراً لقياس المستوى الأخلاقي عبارة عن مجموعة أسئلة فقررت عمل الاختبار حال وصولي إلى مقر عملي، وكنت على ثقة من أن أدائي سيكون جيدا، فقد اعتقدت حتى تلك اللحظة أن لدي أساسا أخلاقيا متينا، خاصة بعد سماعي للأسئلة التي بدت لي بسيطة وبديهية كما ذكرت، من ضمن تلك الأسئلة على ما أذكر: إذا كنت تقيم في فندق– وحدك- هل كنت ستحرص على إطفاء الأنوار والأجهزة الكهربائية قبل خروجك من الغرفة أم ستتركها تعمل؟ وهل ستستخدم الماء بالطريقة ذاتها التي تستخدمه فيها في منزلك ام ستتركه مفتوحا؟ هل ستفتح صابون وشامبو جديد كل مرة أم ستستخدم ما سبق لك أن فتحته؟ لك أيها القارئ الكريم أن تتوقع الإجابة على هذه الأسئلة، وفي النهاية ذيل الاختبار بعبارة قوية ظلت عالقة في ذاكرتي فترة طويلة بعد ذلك، (أن تصمد أخلاقك حين لا تكون مراقبا من الآخرين، هذا هو الاختبار الحقيقي)! لا شك أن الكثيرين منا يعيشون هذه الإخفاقات الصغيرة بشكل يومي، لا لشيء سوى لكوننا نستصغرها، متناسين أن النار من مستصغر الشرر، ومتى ما هان علينا الإثم الصغير تعودت عليه ذواتنا مما يقودنا دون أن نشعر إلى مزيد من الآثام الصغيرة التي تتحول مع الأيام إلى كرة ثلج متدحرجة تكبر يوما بعد يوم حتى تغطي على بصيرتنا ولا نعود نرى ما وراءها، نعم هي سكين صغيرة كما علمني راشد ذلك اليوم، لكنها ليست لنا، لم نستأذن في أخذها، ونعم هو فندق يربح من ورائنا الكثير من المال، لكن الماء مورد طبيعي نملكه جميعا، والمنظفات التي نستهلك تذهب إلى الأرض التي نعيش عليها، والتي تنتج طعامنا فتلوثها، نعم ندفع فاتورة كبيرة للفندق لكن لو كل منا التزم باستخدام مرافق الفندق كما يجب لن تضطر الفنادق إلى تحميلنا هذه الفواتير الضخمة التي حسب فيها الماء الذي سيهدر، والمنظفات التي ستؤخذ أو تستهلك كلها، هي مسؤولية مشتركة إذا نتحملها جميعا، وهذا هو الاختبار الحقيقي، تخيل لو حملنا هذه الثقافة في مقر عملنا وفي أي مكان عام نرتاده كيف سيكون شكل هذا العالم؟
هناك 6 تعليقات:
اسمح لي اختي العزيزة ان اهنئك على ابداعك في الكتابة و ابداعك في اختيار ما ستتحدثين عنه
و ابداعك لموضوع تربوي رائع باسلوب انيق و لطيف مودتي لك اخيتي
Cover Girl
أشكر لك مرورك الكريم، نورتي المدونة
شكرا لك على هذه التدوينه البسيطه بكلماتها البليغه في معانيها , وانا اقول ان في هذه المدونه مواضيع مفيده ومنيره تشع بشمسها للعالمين , شكرا لك
شكرا أخي ناصر
سلام عليكم..
المشكلة تتمثل للاسف في التهاون بألاشياء السلبية لكونها صغير او مخفية , من هذا الفهم الخاطئ نتجرأ على ارتكاب الكبائر والعياذ بالله..
طرح موفق والمعذرة لان التعليق جدا متأخر للاسف لم نتعرف على مدونتكم إلا مؤخرا..فارجو اتسمحو لنا بالمتابعة ..موفقين
اخي موسى متابعتك لمدونتي المتواضعة شرف كبير، أتمنى ان تكون فرصة لتتعرف على عمان من خلالها و تقترب أكثر من العمانين كشعب
إرسال تعليق