02‏/09‏/2012

المرأة الخارقة

عندما كنت طفلة في الثامنة من العمر تكشفت لي قدراتي الخارقة في أن أتحكم بحواسي، وأجعلها تخضع لرغباتي وإرادتي، وقد اكتشفت ذلك صدفة أثناء اندماجي الكامل أمام شاشة التلفاز التي منحتها كل حواسي على ما يبدو بحيث أنني لم أعد أشعر أو أسمع أو أرى سواها، كان والدي يراهن أفراد الأسرة بأنني لست موجودة معهم في تلك الغرفة تلك اللحظة، وقرر أحد الأيام أن يثبت لهم صدق كلامه فلوح بغترته البيضاء أمام عيني لعدة دقائق، وطلب من إخوتي أن يصرخوا باسمي بأعلى صوت، لكنني كنت بداخل تلك الشاشة كلية، عندما تنبهت لهذه الموهبة أصبحت أستخدمها كثيرا حين أريد أن أتجنب مشهدا أو صوتا لا أحبه، وكنت كثيرا ما أمارس هذه الهواية عند زيارة جدتي لأبي لنا والتي تمتد شهورا، إذ كان يحلو لها – رحمها الله- أن تعطيني محاضرات أخلاقية مطولة أغلبها يتضمن تشكيكا في أنوثتي، بسبب إهمالي لهندامي، وانعكافي على قراءة الكتب، إذ كانت جدتي تعتقد بأن الرجال وحدهم المفترض أن يقرأوا في حين كانت ترى أن مكاني هو المطبخ أو أمام (كاجوجة التلي) أو (ماكينة الخياطة)، لكنني كنت مدمنة قراءة، فقد اكتشفت بأنني يمكن أن أسافر بعقلي بعيدا من خلال القراءة، وأترك جسدي حبيس جدران البيت، كنت أسافر متى ما شئت وإلى أي مكان أختار، كنت أقضي ساعات طويلة اسبح في بحيرات أفريقيا، وأركض خلف الغزلان والقرود في غابات الأمازون، وآكل الحساء بملعقة في كوخ صغير في الريف الانجليزي، وعندما كبرت قليلا وقعت في حب رشدي إباضة، كنت قادرة أن أستحضره جسدا ورائحة وصوتا، وكنت اقضي ساعات طويلة أحاوره، وأسافر معه إلى شتى بقاع الدنيا، بل إنه كثيرا ما كان يصطحبني إلى حفلات الفنانين، وكنت اجلس على كرسي بعيد في قاعة الاحتفال أراقب حركة الضيوف، أعلق على أناقة البعض، وقلة ذوق البعض في اختيار الملابس، كنت أرى كل ذلك بتفاصيل دقيقية جدا، حتى طعم الروبيان والكافيار الذي لم أتذوقه قط في حياتي، كنت أشعر به في طرف لساني، وكنت أحكم على نجاح الحفلة من جودة الطعام المقدم، بعد أن تقدم بي العمر أكثر أصبحت أستغل موهبتي هذه في إبعاد الأفكار والمشاعر والمشاهد المؤلمة والتركيز فقط على الجوانب الجميلة في الأماكن والأشياء والأشخاص من حولي، واستخدمت قدرتي على التحكم في سمعي في تجنب الأحاديث المملة، والثرثرة العقيمة التي تنهك روحي، أضع سدادة فولاذية على أذني، أهرب من حديث ممل يقتلني ضجرا إلى عالم ساحر من الخيال، أنقذ روحي به من الملل، وأعود إلى المكان بإرادتي، أدرك تماما بأن صمتي مستفز لمن حولي، وأدرك بأنه يثير استياءهم، والكثيرون عبروا لي عن غضبهم، لكنني لا أتجاهل الجميع أنا فقط انتقائية في من أمنحهم سمعي ليس إلا، أستطيع أن أحاور وأناقش أنا أيضا ولساعات طويلة، بل إنني من الممكن أن أصبح ثرثارة لو أردت، لو شعرت بأن الطرف الآخر مهتم فعلا لما أقول، لكن البعض يعطيني انطباعا بأنه ليس معنيا بما أقوله، يعطيني انطباعا بأنه وضع سدادا فولاذيا على أذنه بحيث أنه لم يسمعني بدليل أنه استمر في الحديث في موضوعه رغم مداخلتي ورغم اعتراضي، أو عندما أشعر بأنني على وشك الدخول في جدال عقيم مع شخص مصر أن رأيه هو الحقيقة الوحيدة التي يجب أن أؤمن بها حد الاعتقاد المطلق، أو حين يشعرني الآخر أن ليس لديه ما يستحق ان يسمع، أيقنت أنني ما آكل واسمع وأشاهد لذا أنا انتقائية جدا فيما أضع في معدتي وعقلي على حد سواء، أصبحت أضع حول نفسي سياجا، حتى بصري أصبحت أتحكم فيه فلا أسمح له أن يقع على قبيح فيمن حولي أو ما حولي، لأنني اكتشفت بأن عيني تقع أول ما تقع على عيوب الآخرين ونواقصهم، وأنني عندما أرى الجوانب السلبية في الأشخاص من حولي لا أستطيع أن أثق بهم وتنتابني الريبة في تصرفاتهم، ولا أتمكن من حبهم، وهذه المشاعر تتعبني، وترهق روحي، وتشعرني بأنني أحمل حملا ثقيلا على كاهلي تصبح معه حركتي ثقيلة، وعندما أركز ببصري على الجوانب المضيئة في الشخصيات من حولي، يجعلني ذلك أكثر ثقة بمن حولي وأكثر تسامحا وتقبلا لهم، وأكثر سعادة وإقبالا على الحياة..لذا تعلمت أن أشعر بالامتنان للمولى على هذه القدرات الخارقة التي أنعم بها علي، وكتعبير عن هذا الامتنان قررت أن أحسن استخدامها فيما سيضفي على حياتي البهجة التي أريد، أتجنب التركيز على السلبيات وأركز على الإيجابيات وعلى الجانب المشرق من الحياة، التي هي حتما جميلة لو استطعنا أن نستذكر النعم من حولنا بحيث لا نجعل الأمنيات التي لم تتحقق أهدافا نضع كل طاقاتنا فيها بحيث تشغلنا عن الاستمتاع بلذات ما نملك ومتعة ما حولنا

هناك تعليقان (2):

علي موسى يقول...

سلام عليكم..
مقالة رائعة ،هل يمكن القول بأنه التكيز والتكيز مع الاستمرارية يخلق المعجزات ،ما الدين إلا السيطرة على النفس بضابطة العقل والدين...موفقين

Unknown يقول...

بالضبط