27‏/05‏/2012

وعادت (لكشمي)

اصبحت لكشمي موضوع كل حديث يجمعني سواء بافراد أسرتي أو أسرة زوجي وحتى بعض الأصدقاء، حيث يعتقد الجميع بأن ست سنوات كافية لإبقاء عاملة منزل، خاصة وأن لكشمي بدأت تظهر عليها بعض التصرفات التي تنم عن تمرد، وفقدان الرغبة في العمل، لكنني لم استطع أن أتخلى عن لكشمي فصرفت لها تذكرة ذهاب وعودة، وكان ذلك كفيلا بأن يتنفس أفراد الأسرتين الصعداء فقد كانوا جميعا على ثقة بأنها لن تعود، وعلي أن أطلب العوض من الله في المبلغ الذي دفعته ثمنا لتذكرة العودة، وأن ابدأ في مباشرة جلب عاملة منزل فلبينية، ساردين لي مزايا العاملات الفلبينيات مقارنة بلكشمي، ولكن لكشمي عادت مخيبة آمال الجميع و في الموعد المحدد بدون تأخير، فاتحة سيلا من التعليقات على طيبتي الزايدة وتساهلي، لكن مالا يعلمه المحيطون بي بأن لكشمي أصبحت بالنسبة لي أكثر من مجرد عاملة منزل، انا أحتاجها هذه المرحلة من حياتي أكثر من اي وقت مضى، فلكشمي لم تحضرها الصدفة إلي، بل أتى بها القدر، وقد أدركت ذلك من عبارة قالتها لي صديقتي المقربة يوما بأن كل انسان يدخل حياتنا إنما جاء به القدر ليؤدي دورا ما في مسيرة تطور ذواتنا ومرحلة نموها، وأن علي عدم البكاء على فراق الأحبة و محاولة استبقائهم، فهم لن يبقوا مهما حاولت، سيرحلون إما مسافرين أو راحلين إلى عالم الموتى حالما يؤدون الدور الذي جاءوا من أجله، وهذا ما يجعلني مقتنعة بأن لكشمي جاءت لتؤدي دورا ما في حياتي غير دور خدمتي، جاءت لتعلمني شيئا ربما، وعندما أسترجع أحداث السنوات الماضية ادرك بأن لكشمي علمتني الكثير وما زالت، أتذكر اليوم الذي جاءت فيه لأول مرة إلى عمان، بعد أربع سنوات قضتها في السعودية في خدمة سيدة عجوز، جاءتني بصوت ذليل طالبة بعض ملابسي القديمة لتلبسها فهي لم تحضر سوى بالساري الذي كان يغطي جسدها النحيل، رفضت إعطاءها ملابسي وعرضت عليها اصطحابها للسوق لشراء أغراض لها لم يكن تصرفي هذا نابعا في الحقيقة عن كرم أو طيبة و إنما لأن (الأنا) بداخلي استكثرت أن تلبس عاملة منزلي ملابسي، وتعذرت لها بأنني لا أستطيع إعطاءها ملابسي حتى لوكانت قديمة لكوننا من فصيلتين مختلفتين فهي من فصيلة (العمالقة) وأنا من فصيلة (الأقزام)، اصطحبتها إلى اللولو محدثة نفسي بأن هذا هو مكان تسوق بني جنسها، كنت أضع الملابس والأغراض في العربة وألاحظ نظرة رعب في عينيها وهي تبحلق في السلة، وعندما رأت السلة و قد امتلأت بالاغراض الجديدة استوقفتني قائلة: هل هذه الأغراض كلها لي؟! عندما أجبتها بنعم اعترضت قائلة: أنا لا استطيع كلفتها، عندما سألتها لماذا اعتقدت بأنني سأحملها كلفة هذه الأغراض، أجابت لأن كفيلتي السابقة كانت تعطيني ملابسها المستعملة فقط، وعندما عرفت بأن كل تلك الغريضات لها هي ولن تضطر إلى دفع قيمتها، نظرت إلي نظرة شعرت معها بقلبي يسقط مني، وقد ترقرقت عينيها بالدموع، كان ذلك أقوى دروس لكشمي التي افتتحت بها سلسلتها التعليمية لي فقد بكيت كثيرا تلك الليلة ولم أستطع أن امحو تلك النظرة حتى هذه اللحظة، لم يكن شرائي للأغراض تلك كرما مني كما اسلفت، لكن بالاضافة إلى السبب الذي ذكرته فقد كان لدي سبب آخر هو ان (الأنا) القابعة بداخلي كانت تأبى أن يرى ضيوفي شغالتي بمظهر رث، الاغراض التي اشتريتها دفعت فيها أقل من نصف الثمن الذي أدفعه عادة لكندورة مخورة البسها مرتين أو ثلاث ثم أتخلص منها، لكن مقدار السعادة التي منحتها لهذه المرأة لا تقدر بثمن على الاطلاق، فتحت لي لكشمي يومها قلبها عن سبب مجيئها للعمل وهو أن لديها طفلين عاهدت نفسها بأن لا يريا يوما من ايام الذل التي عاشتها هي، فكانت لكشمي هي قدوتي عندما جاءت البعثة الدراسية لطفلتي وراهن الجميع على اني لن استطيع أن أتركها ترحل وهم يدركون تعلقي الشديد بها، لكنني كنت أنظر إلى لكشمي كل صباح وهي تعمل بصمت في مهمة أدرك أنها تبغضها كثيرا من أجل مستقبل طفليها، لأنها عاهدت المسيح أن تمنح ما تبقى من عمرها له ولأولادها لتمنحهم الحياة التي يستحقون و تنقذهم من براثن الفقر والجريمة، وقصت لي رحلة أقرب إلى فيلم سينمائي حول رحلة وصولها الى عمان، التي كشفت لي لأنه على عكس ما كنت أظن فإن لكشمي لم تقرر بين يوم وضحاها أن تأتي إلى عمان و جاءت، لكن رحلتها استغرقت أكثر من ثلاث ساعات التي استغرقتها الطائرة التي اقلتها إلى مطار مسقط الدولي، استغرقت سنوات تناقلتها عبرها أيدي السماسرة الذين رهنت لهم كل ما تملك، ووعدتهم بما لم تملك بعد، في مقابل أن تصل إلى عمان فقط، مما يعني أن رواتبها لفترة طويلة بعد وصولها لن يصل إلى أبنائها منها إلا اليسير، حيث سيذهب أغلبه لهؤلاء السماسرة، أعرف أن الغربة تؤلمها، فقد جربتها سنوات طويلة أنا ايضا، وأنها تخلت عن جزء كبير من كرامتها و كبريائها للعمل عندي من أجل طفليها، فوجدت بأنني أستطيع تقديم تضحية صغيرة من أجل مستقبل طفلتي مستمدة القوة من لكشمي وما زاد حمل المسؤولية علي شخصيا تجاه لكشمي اتصالا جاء من والدتها تلك الليلة تحلفني فيها بالمسيح أن أعتني بطفلتها واحسن معاملتها متعهدة هي لي بأن لا أرى مكروها من ابنتها التي كما تقول ربتها على تعاليم السيد المسيح، وهي فتاة طيبة لن تخذلني أبدا....قد أكون قدمت للكشمي العمل و المأوى لكنها قدمت لي الكثير عبر السنوات الماضية، وجعلتني أتقرب من الانسانة بداخلي التي كادت أن تختفي رويدا رويدا وراء جبروت الأنا..لذا عذرا ايها الأحبة فلكشمي باقية إلا ان تقرر هي الرحيل برضاها

هناك تعليقان (2):

علي موسى يقول...

سلام عليكم..
جزيتم خيرا،الاعتقاد بأن اي شخص يدخل حياتنا جاء ليعلمنا شيئ ما فعلاً صحيحة ، حتى لوكان سيئ بسؤه ينبهنا لان يكون سلوكنا حسن حتى لا يتذى الغير منا كما نحن متأذون منه ان وجد لسلوكه اذية.
العاقل من اتعظ بغيره..،مهما قل شأن هذا الغير في نظرنا لابد ان لديه خصلة ما او تجربة ما تحتم علينا الاخذ بها دون النظر معتقده وجنسه ،فالحكمة ضالة المؤمن من اين لقيها اخذها...
حتى يإذن الله بأخذ حكمة وعبرة اخرى كونوا بخير

Unknown يقول...

صباح الخير أخي موسى
اشكرك جزيل الشكر على جميل المتابعة لما أكتب، و على حرصك على المشاركة بمداخلاتك القيمة...ممنونة فعلا