04‏/05‏/2015

بحث الانسان عن المعنى

كتاب (بحث الانسان عن المعنى) هو قصة حول الإرادة البشرية وكيف يستطيع الانسان أن يتغلب على ظروفه مهما بلغت قسوتها، من خلال تلك الإرادة وحرية اختيار ردة الفعل تجاه الأحداث التي يتعرض لها، إذ يثبت لنا الكاتب أن هذه الحرية لايمكن لمخلوق أن يسلبك إياها دون إرادة منك، فأبطال هذه القصة عاشوا نفس الظروف خرج البعض منها أقوى مما كان، مصداقا لمقولة أن ما لا يقتلك يقويك، فيما استسلم آخرون لليأس ففقدوا الرغبة في الحياة فاستجاب لهم الموت سريعا، احدى الوسائل التي يستطيع بها الانسان التغلب على ظروفه هي العيش في المستقبل أو الأمل، ومتى فقد المرء هذه القدرة فقد الدافع للبقاء.
هذا الكتاب الجميل والمحفز يغوص في أعماق النفس البشرية بخبرة طبيب نفساني وخبير أعصاب، ويكشف بعض أسرارها، كتبه النمساوي فيكتور فرانكل عقب خروجه من معتقلات النازيين والتي قضى فيها أربع سنوات، رأى فيها صنوف العذاب المختلفة التي نسفت كل النظريات التي تعلمها في علم النفس، و كثيرا مما درس أيضا في الطب البشري، فقد كشفت له تلك المعاناة عن قدرة الانسان على التكيف مع أقسى الظروف، ففي كنف سجانيه الذين نزعت الرحمة من قلوبهم، والذين تم اختيارهم بحرص من ضمن أصحاب الشخصيات السادية والسيكوباتية، تعلم هو ورفقاؤه كيف يقاومون اليأس الذي كان يهددهم بالجنون في كل لحظة، بالتعلق بالذكريات الجميلة التي حملوها عمن يحبون، و بالأمل الذي كان يعانق نفوسهم برؤية من خلفوهم وراؤهم، غير مدركين أنه لم يبق أحد ينتظرهم في الواقع، ففيكتور فرانكلين اكتشف بعد خروجه من المعسكر أن كل من أبويه وزوجته وابنه قد ماتوا في غرف الغاز مع من تم إعدامهم فيها، وكذلك من تبقى من رفاقه- وهم قليلون جدا، فمن لم يمت بوباء التيفوئيد الذي انتشر في المعتقل، مات من التعذيب والجوع، ورغم ذلك اختار فيكتور فرانكلين طريق التسامح و الحب عوضا عن الانتقام لإدراكه بأن نار الانتقام لن تعيد له ما فات، وهي ستحرقه قبل ان تحرق عدوه، كما أنه أدرك أنه اذ ما احتفظ بمعنوياته العالية وعقله سيتمكن من مد يد العون لرفقائه السجناء ممن دمر التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له معنوياتهم، خاصة بعد خروجهم من السجن واكتشافهم بأن لا أحد في الواقع ينتظرهم، وأن الكثيرين ممن حلموا بلقائهم لم يكونوا يعرفون مقدار الألم الذي كانوا يعانونه، بالتالي لم يتفهموا إحباطاتهم مما سبب لهم ألما اشد وطأة من ألم التعذيب. وحدثت لدى البعض منهم ردات فعل عنيفة تجاه المجتمع الذي خذلهم.
يقسم الكاتب دراسته لأوضاع المساجين النفسية إلى مرحلتين مرحلة السجن، والضغوطات النفسية التي نتجت عن القسوة المفرطة، والتعذيب البدني والنفسي بالغ الوحشية الذي تعرض له المساجين، الذين كانوا يعيشون على قطعة من الخبز طوال اليوم، رغم أنهم يجبرون على ممارسة أعمال شاقة في ظروف مناخية بالغة القسوة، كشفت لفرانكلين قدرة الجسد البشري على التاقلم مع أقسى الظروف المناخية، وكيف أن الجسد بدأ يتغذى على أنسجته ليبقى على قيد الحياة، وكيف تتبلد مشاعر المساجين وهم يرون رفاقهم يموتون أمامهم و يجرون كالحيوانات ويلقى بجثثهم في حفر حفروها بأنفسهم، والمرحلة الثانية كانت مرحلة الحرية التي لمفاجأته الشديدة لم تقابل بذات الفرحة التي رسمها المساجين في مخيلتهم مرارا وتكرارا وهم يحلمون بها و يرسمون أدق تفاصيلها، فقد قوبل خبر الحرية بدون ردة فعل قوية، فسرها الكاتب بعدم التصديق ربما من كثرة ما ترقبوها ولم تأت، ومعاناة التأقلم مع العالم الجديد الذي اختلف كثيرا عن العالم الذي تركوه قبل السجن.
نتيجة هذه المشاهدات ودراسته لأوضاع المساجين، أسس فرانكلين مدخلا علاجيا في علم النفس تحت مسمى (العلاج بالمعنى)، هو علاج يركز على الجانب الروحي للإنسان ويهدف الى مساعدة الفرد على اكتشاف المعنى المفقود في الحياة وذلك من خلال تبصيره بالجوانب اﻹيجابية والطاقات والإمكانيات التي يمتلكها بدلا من التركيز على الجوانب السلبية ومواطن القصور والعجز، فوحدهم من اكتشفوا معنى لحياتهم استطاعوا أن يتغلبوا على ظروف اعتقالهم، ويخرجون من المعتقل بأرواح لم يكسرها التعذيب، بمن فيهم الكاتب، الذي يقدم من خلال هذا الكتاب نموذجا رائعا لمقولة أن الانسان يمكن أن يؤخذ منه كل شيء لكنه يملك الخيار دائما للتحكم في ردة فعله، وهو بالضبط مافعله بعد ذلك نيلسون مانديلا الذي حير العالم في قدرته على الاحتفاظ بروح إيجابية، وحب غير مشروط لمن حوله بما فيهم أعداؤه، رغم حبسه على مدى 28 سنة في زنزانة صغيرة، حجمها وحده كفيل بأن يسبب الجنون لغيره، يكشف الكاتب خلال رحلته أيضا كثيرا من خبايا النفس البشرية، وقوة الايمان في جعل الانسان يتجاوز أقسى الظروف وأصعبها، فأولئك الذين كان عندهم دين يؤمنون به، كانوا أقدر على تجاوز المحنة من اللادينيين، يكشف لنا فرانكلين أيضا كيف أن الاحساس بالظلم والاهانة يتجاوز ألمه ألم الايذاء الجسدي مهما بلغت قسوة الأخير وعنفه، أنصح بالكتاب لتلك الفئة التي جعلت من الظروف شماعة تعلق عليها فشلها وتبقيها مكانك سر، إذ يكتشف المرء من تجارب كهذه أن الظروف لا تصنعنا.

ليست هناك تعليقات: