09‏/03‏/2015

إلى لقاء

Share Buttonمر كثيرون بهذه المؤسسة من عمانيين وأجانب، انتهت خدماتهم بأشكال متعددة، لم أكتب عنهم، لكن الزميل أحمد الرئيسي شخصية استثنائية أجدها اليوم تفرض نفسها علي بقوة لأكتب عنها، وإن كانت قريحة الكاتب كانت دائما تتفتح عندما يأتي الحديث عن هذا الرجل، بشخصيته البسيطة والهادئة، وابتسامته الدائمة، ونشاطه الملحوظ وهو يتنقل كفراشه بين مكاتب المؤسسة المنتشرة على عدة طوابق بحكم وظيفته في قسم الشبكات في دائرة تقنية المعلومات، مهمته مرتبطة دائما بمشاكل معقدة تتطلب حلا، وحلا سريعا، وعليه أن يتعامل على الدوام مع موظف فقد صبره بسبب ضغط العمل، والمواعيد التي التزم بها، وحده أحمد لا يفقد صبره مطلقا، ووحده أحمد يظل هادئا مبتسما رغم الظروف، ولا شك أنه مرت بنا في هذه المؤسسة الكثير من الأزمات على مر السنين، فقدنا فيها أعصابنا وقدرتنا على التحكم في أنفسنا، مر بي كثير من الموظفين شاكين أو متذمرين أو ساخطين، وحده أحمد لم يطرق باب مكتبي يوما طالبا أمرا، أوشاكيا على زميل، أو متذمرا من عمل، أو ساخطا على مسؤول، يقال إن معادن الرجال تظهر في المواقف الصعبة، وأنك إذا أردت أن تعرف قيم شخص ما ومبادئه جربه وقت الشدائد، ومعدن أحمد كان يظهر دائما لامعا براقا مع اشتداد المحن التي كانت تعصف به، ينتمي إلى عائلة ثرية جدا، لكن قلة من كانوا يدركون ذلك، لبساطته وتواضعه الشديد، وإن كان الجميع ربما لاحظ سخاء يده الممدودة بكرم عند أي مبادرة لتجميع معونات لزميل تعرض لأزمة، أو إنسان كان بحاجة لمساعدة، ودائما في صمت وفي الخفاء ودون أن يحاول إظهارها، في حفل التوديع الذي أقامه له زملاء العمل بدائرة تقنية المعلومات، امتلأت القاعة الصغيرة بزملاء من إدارات أخرى أصروا على الحضور وتقديم كلمة شكر أخيرة لهذا الرجل الاستثنائي، الذي مر بنا كنسمة صيف باردة، أجمع الجميع على أنه لم يحدث في يوم من الأيام على مدى عشرين عاما مضاها أحمد في هذه المؤسسة أن حدث خلاف مهما بلغ حجمه مع أحدهم، لم يسمع منه زميل كلمة جارحة حتى وإن لم تكن مقصودة، مثل هذه الشخصيات نادرة الوجود فعلا، لا تتكرر كثيرا في حياة المرء منا.
وعندما يحدث ففي كثير من الأحيان نفشل في رؤية لمعان معدنها الأصيل، حتى إذا ما حانت لحظة الفراق بدأنا نلحظ ذلك اللمعان الذي يبدو وكأننا نراه للمرة الأولى، مصداقا للحكمة العمانية الدارجة: (إن بغيت تغلا يا ابعد يا موت)، لماذا علينا أن ننتظر حتى يحين الفراق لندرك ما كان يعنيه بعض الأشخاص في حياتنا، لماذا نفكر حينها فقط بأن نجعلهم يشعرون بأنهم عنوا لنا الكثير، وأنا أسمع كلمات الثناء والشكر التي انهالت على أحمد أثناء حفل التوديع ذاك، تساءلت في داخلي إن كانت ايا من هذه الكلمات قد قيلت في حضرته يوما، هل حاول أحدنا أن يشعر أحمد بالامتنان الذي شعرناه لمجرد وجوده بيننا، هل قيل له أيا مما قيل تلك اللحظة قبلها، أم أنها كانت المرة الأولى التي يسمعها، إن كان الأمر كذلك فما أبخلنا وما أقسانا، كم من فرد حولنا كان مصدرا دائما للفرح في حياتنا، ومصدر الهام حقيقي لم نمنح أنفسنا لحظة للتعبير له عن امتنانا لذلك، اليوم هناك مجموعة من الزملاء الذين أكملوا المدة المؤهلة لاستحقاق التقاعد، قد يخرج البعض منهم فعلا للتقاعد أسوة بأحمد، هذه المجموعة التي وضعت اللبنات الأولى لنظام التأمينات الاجتماعية في السلطنة، بدأوا المشوار معا خريجين جددا، شبابا يافعين، كانت وظائفهم في هذه المؤسسة هي وظائفهم الأولى وتجربتهم الأولى في سوق العمل، كانت رحلة طويلة من الإنجازات والإخفاقات على حد سواء، لم تكن الرحلة سهلة ولم يكن الطريق دائما مفروشا بالورد، لكن الرحلة استمرت على كل حال، ويبدو أن سنة الحياة في أن يكون لكل رحلة نهاية، شهدت المؤسسة أول حالة تقاعد العام المنصرم، تليها تقاعد أحمد اليوم، كما شهدت سلسلة متتابعة من الوفيات، أجبرت البعض منا على التوقف قليلا والتفكر فيها، وتذوق طعم الفراق مرة تلو مرة، أدرك تماما أنها ليست المرة الأولى التي واجهنا فيها هذا الضيف الثقيل، وحتما لن تكون الأخيرة، إلا أن ما يدهشني حقا هو أننا لا نتعلم الدرس مطلقا، سرعان ما نعود نمارس الأخطاء ذاتها من الإهمال العاطفي لمن نحب، ونتصيد زلاتهم، ونتحين الفرص للقسوة على من حولنا، والغضب السريع لأتفه الأخطاء المقصودة وغير المقصودة التي تصدر ممن حولنا، حتى إذا افتقدناهم أو أوشكنا أن نفقدهم تذكرنا حينها ما كانوا يعنونه لنا، لكن هناك فراق لا لقاء بعده، لا يتاح لنا حينها أن نتراجع عن أخطائنا، ونشعر من فقدناهم بقيمتهم بالنسبة لنا.

ليست هناك تعليقات: