02‏/02‏/2015

تأمل


نادرا ما يخلو كتاب في التنمية البشرية من الإشارة إلى التأمل كأحد أهم تقنيات تطوير الذات على الإطلاق، لكنني لسبب ما وضعت هذا التطبيق بالذات جانبا طوال سنوات من رحلة اكتشاف الذات و تطويرها، و إن كنت طوال تلك الفترة أنوي إيجاد فرصة مناسبة لتعلمه، مدفوعة بتلك الوعود بالسلام الداخلي والهدوء التي يعد بها خبراء التنمية البشرية، إلى أن شاء الرحمن أن أبدأ بها فجأة وبدون سابق تحضير، ومنذ تلك اللحظة أصبح التأمل أسلوب حياة لا غنى عنه بالنسبة لي، أستخدمه كوسيلة تصفية ذهن عندما أجدني مجهدة ذهنيا بسبب ضغوطات العمل، أو مواجهة مشكلة من أي نوع، فأجد في التأمل وسيلة فعالة لاستعادة صفاء الذهن مما يسمح لي بالتفكير في المشكلة بموضوعية أكثر، ونادرا ما أدخل مرحلة التأمل دون أن أجد حلا للمشكلة التي أمر بها، إلى جانب صفاء الذهن يساعدني التأمل على الغوص في أعماقي و التعرف على أفكاري ورغباتي ومخاوفي بشكل أفضل، الأمر الذي يساعدني كثيراً على التعامل معها، بحيادية تساعدني على تجنب تبعياتها السلبية التي قد تجرني إلى وضع نفسي لا أريده، أو مجرد التعرف على الأفكار المسيطرة، فكما يقال فإن عالمك الخارجي هو انعكاس لعالمك الداخلي، والأفكار المسيطرة على ذهنك هي التي تحدد مصيرك في الغالب، من مبدأ أنك تحصل على ما تفكر فيه على الدوام، كذلك فإن التعرف على المشاعر الداخلية في غاية الأهمية فهو يساعدني على عزل ذاتي عن هذه المشاعر، لأصل إلى مرحلة الإدراك بأن هذه المشاعر لا تمثلني بأي حال من الأحوال، فأنا لست الخوف الذي الذي يقبع بداخلي، ولا الغضب الذي يتملكني في لحظة ما، فهذه هي مجرد مشاعر يمكنني التحكم فيها متى شئت، خاصة اذ ما عرفت مسبباتها، وليس أفضل من التأمل في ربط المشاعر بالأسباب التي أدت إلى الشعور بها، التأمل يساعدني على أن أعيش بوعي، أي أن أعيش اللحظة بكل تفاصيلها بمعزل عن الماضي بكل أحداثه المؤلمة والسارة على حد سواء، و المستقبل بكل الخوف والقلق الذي يصاحب التفكير فيه أحيانا، ويدرك المرء الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرحلة من الوعي، كيف أن مسببات ألمه وحزنه وخوفه لا علاقة لها بالحاضر في الحقيقية، وإنما هي نتيجة تأرجحه بين الماضي والمستقبل، وكثيرون منا للأسف لديهم قدرة غير طبيعية للبقاء في الماضي، و استعادة شريط ذكرياته على مدار أربعة و عشرون ساعة من حياتهم، فتضيع عليهم فرصة الحياة الحقيقية، لأنهم يظلون قابعين في تلك اللحظة من الماضي لا يتجاوزونها، أو القلق على ما يمكن أن يحدث في المستقبل فيصدون كل أبواب السعادة خوفاً من المجهول، سواء كان هذا المجهول فقراً يخشون الوقوع فيه بزوال الثروات التي جمعوها صغرت هذه الثروات أم كبرت، أو مرضاً يخشون الإصابة به، يبقيني التأمل أيضا متصلة بالخالق بشكل لم أحلم به في حياتي، فأنا أكون أقرب إلى الله جلت قدرته وأنا في تلك اللحظة من التأمل التي تجعلني أكثر وعياً وتركيزاً وحضوراً في عباداتي، مما يساعدني على الخشوع أثناء تأدية هذه العبادات و فصل نفسي كلية عن العام الخارجي، فضلاً عن أن النصوص الدينية قرآناً كان أم حديثا أم دعاء أصبحت أفهمها وأستوعبها بشكل لم يسبق لي أن وصلت له من الفهم والوعي، ذلك لأن التأمل أعطاها بعدا آخر، نصوصا تربيت عليها ورددتها في صلاتي آلاف المرات على مدى سنوات عمري، بدأت اليوم أفهمها وأستوعبها بشكل مذهل جداً، وكأنني أقرأها للمرة الأولى، ولعل هذه الميزة بالذات هي أجمل فوائد التأمل على الإطلاق، فلم أشعر يوما في حياتي بأنني بهذا القرب من رب العالمين، ولم أكن في يوم من الأيام بهذا القرب من نفسي، كثيراً ما أدخل في نوبات بكاء طويلة أثناء جلسات التأمل، وأنا أدرك بأن سنوات من عمري ضاعت سدى لأنني بكل بساطة لم أكن أعيش اللحظة، لأن هذا كل ما يتطلبه العيش بهدوء، والتأمل يساعدني كثيراً على ذلك، وإن كان التأمل قد بدأ الحديث عنه مؤخرا كأحد تقنيات تطوير الذات لكنه في الواقع بدأ منذ الآف السنين عند الشعوب الشرقية بالذات، وقد قامت بعض هذه الديانات والمعتقدات الشرقية على مفهوم التأمل كجزء أساسي من العبادة كالديانة البوذية و الهندوسية، و في ديننا الإسلامي الحنيف فإن التدبر والخشوع جزء مهم جدا من عقيدتنا، و قد لجأ المصطفى عليه الصلوات وأزكى التسليم لغارِ حراء قبل نزولِ الوحي في جلسات تأملٍ و تدبرٍ طويلة ، انتهت به يستقبل الرسالة، فكان التأمل وسيلة أوحى بها الخالق جلت قدرته لخير الخلق أجمعين من أجل تهيئة روحه و عقله لاستلام رسالة الله جل وعلى التي لا شك أنها كانت تتطلب عقلا وذهنا صافيين، الجميل في الأمر أن التأمل لا يحتاج إلى ساعات طويلة إذ يكفي دقائق معدودة يستمر عليها المرء كل يوم.

ليست هناك تعليقات: