26‏/01‏/2015

حبيب

انطلق (حبيب) في سرد أحداث قصته المثيرة لي بمزيج من اللغتين العربية والانجليزية بالقدر الذي أسعفته الكلمات التي تعلمها خلال السنتين الماضيتين من إقامته على أرض السلطنة، مضيفا لها بعض الحركات التمثيلية والإشارات عندما كان يلمح بذكائه الفطري الحاد أنني فقدت القدرة على متابعة أحداث قصته، ظننته هندي الأصل في البداية بسبب سمار بشرته، لولا أن السروال والقميص وشيا به، ومن ثم عرفت أنه من أب باكستاني وأم إيرانيه، لذا قضى طفولته متنقلا بين الدولتين، فأمه هي الزوجة الثانية لرجل أعمال باكستاني، عندما أنهى الشاب دراسته أصر والده عليه أن يتعلم حرفة إضافية فألحقه بمعهد فني ليتعلم الأعمال الكهربائية والسباكة، لأنه أراد له أن يشق طريقا مختلفا عن تجارة والده، بعد تخرجه قام الأب بتزويجه ومن ثم طلب منه ترك المنزل وتوقف عن الصرف عليه طالبا منه أن يشق له طريقا مختلفا ويتعلم كيف ينفق على زوجته وأبنائه، وبالخبرة التي اكتسبها الشاب من عمله مع والده واحتكاكه به طوال تلك السنوات، استطاع أن يكون له تجارة رابحة، لم أفهم في الواقع طبيعتها، كل ما عرفته أنه استغل حقيقة كونه إيراني المولد ليقوم بتهريب بضاعة عبر الحدود بين الدولتين تمكن أن يكون منها ثروة قدرت بأربعين ريالا عمانيا، خسرها كلها عندما وقع في قبضة أمن الحدود، عانى بعدها الشاب أشد حالات الفقر وظل عالة على أصدقائه فترة طويلة قبل أن يضيق الحال بزوجته وتصر عليه أن يسافر إلى دول الخليج النفطية الثرية، إلا أن الرحلة كما وصفها لي (حبيب) لم تكن سهلة، فقد تلقفته سماسرة (البشر) على مدى شهور قبل أن يحصل على تأشيرة للقدوم إلى أرض السلطنة الحبيبة، اضطر أن يستدين من كل من حوله ليوفر ما يقارب الألف ومائتي ريال عماني وضعها في أيد السماسرة، ووصل أرض السلطنة وفي يده ثلاثة آلاف درهم إماراتي، أوهمه الصراف الذي ذهب لتغيير العملة معه في بلاده بأنها هي عملة عمان لكونه سيربح من فرق العملة أكثر من الريال العماني، وعند وصوله إلى أراضي السلطنة استضافه (صديق) باكستاني من قريته أخذ منه الثلاثة آلاف درهم ليؤمن بها تأشيرة عمل له، لكن (الصديق) احتال عليه ولم يعد المال له، وألقى به في الشارع، وبدون مال في يده، ودون أن يعرف أحد في السلطنة ظل يجوب حواري وزقاق روي والحمرية، إلى أن اهتدى إلى (صديق) آخر قدم له المأوى وساعده في الحصول على عمل.
هنا أدرك الشاب الغريب الهدية التي منحه والده اياها، المتمثلة في مهنة الكهرباء والسباكة، فبدأ العمل بها، متنقلا بين المنازل والمقاولين، ليجمع هذه المرة (قيمة) الكفالة التي عليه أن يعطيها للكفيل العماني، النوع المقابل من سماسرة البشر الذي عليه أن يتعامل معهم هنا، والذي طلب منه مبلغ خمسمائة ريال عماني لم يملك الفقير منها ريالا سوى مائة ريال عماني، مما اضطره إلى بدء سلسلة أخرى من القروض ليتمكن خلالها من تسديد قيمة (الكفالة) للسمسار البشري الجديد، وهكذا مضت على (حبيب) سنتان من دخوله إلى أرض السلطنة يعمل خلالهما أكثر من خمسة عشر ساعة يوميا، متنقلا بين مقاول وآخر من أجل أن يسدد ديون سماسرة البشر الذين كانوا يضغطون على زوجته وأسرته في بلاده، ويشكلون له تهديدا هنا في بلاد الغربة، وقطع الاتصال تقريبا مع أسرته لكونه لا يملك قيمة المكالمة التي يستطيع أن يطمئن بها على أولاده أولا، ولكونه لم يعد يستطيع احتمال زوجته التي أنهكها العوز وضغط الدائنين من جهة، وربما أرهقتها المسؤولية الملقاة على عاتقها من جهة أخرى، فكانت تقابل مكالماته بالصراخ والسباب، كنت أراقبه وهو يحتسي الشاي بيد مرتعشة هدها العمل المضني طوال اليوم، وروح أنهكها ظلم البشر، ولسان حالي يقول كيف يستطيع إنسان النوم وهو يعلم مقدار العذاب الذي يعانيه إنسان آخر بسببه؟!
هل تستحق الخمسمائة ريال هذا الثمن الذي على حبيب وأمثاله أن يدفعوه من إنسانيتهم وكرامتهم ومستقبل أبنائهم؟! سؤال أدرك أن الإجابة عليه ستكون محيرة أكثر من السؤال ذاته، فالظلم سمة للأسف لدى البعض منذ الأزل، وستستمر باستمرار الخير لدى البعض، قدر بعض البشر أن يعيشوا تحت اضطهاد البعض، وقدر البعض منا أن يعيش على معاناة الآخرين، فلا وجود لمدينة أفلاطون الخالدة ولن تكون، وستستمر العبودية ما استمر وجودنا على هذا الكوكب، بأشكال ومسميات مختلفة، نخفي تحتها قبح المعنى الحقيقي لما نمارسه تجاه إخوان لنا لا ذنب لهم سوى (العوز والحاجة)، (حبيب) أعطاني درسا قويا آخر برفضه أن يأخذ كلفة العمل الذي قام به في منزلي، عرفانا وامتنانا للدقائق التي منحتها له من وقتي (الثمين) كما وصفه، رغم حاجته الماسة له، رحماك ربي.

ليست هناك تعليقات: