19‏/01‏/2015

أكتب تصح


بدأت كتابة اليوميات في سن مبكرة جداً من حياتي، في تلك الفترة كنت أكتب للاستعانة بها على الوحدة التي وجدت نفسي فيها إثر انتقالنا من مسقط رأسي السنينة، حيث الأهل والأصدقاء والفضاء الواسع للحركة والحرية والتواصل الإنساني مع الجميع، في السنينة كنت اشعر بأنني أعيش في بيت كبير وسط عائلة ممتدة تقطن منازل مختلفة، وكنت أجد في ذلك إشباع لحاجتي الفطرية للعاطفة والتواصل مع الآخرين، وهو ما افتقدته بشدة عند انتقالي للمدينة، التي شعرت بأن بيوتها الإسمنتية كانت أشبه بسجن، فوجدت صعوبة في بناء علاقات جديدة مع جيراني الجدد، وشيئاً فشيئاً فقدت ذكائي الاجتماعي، حتى جاءت المدرسة ووجدت نفسي مجبرة على التعامل مع الآخرين بحكم الحيز المكاني الذي جمعني بهم، لكن حالما أعود للبيت أبقى وحيدة بين جدرانه الأربعة، هذه الجدران التي أجبرتني على اللجوء إلى مكتبة والدي لأتعلم من خلالها أن أكون صداقات من نوع آخر، صداقات مع مؤلفي هذه الكتب، الذين أصبحوا منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة، الأصدقاء المخلصون والناصحون الأمينون، ومؤنسي وحدتي، ومصدر الدعم في حياتي، هؤلاء الرفقاء هم من علموني فيما بعد رفقة القلم، الذي لم يغادر يدي منذ اليوم الذي تعلمت أن أمسك به، بدأت يومي بشخبطات، وسرد لأحداث يومية، وبوح بما يختلج في نفسي، فمنذ طفولتي تعلمت أن (السر) الذي يخرج من صدري يفقد سريته، فتعلمت أن أقدس أسراري، ومن بعدها أسرار الآخرين، وقد حولتني هذه السمة إلى (كاتمة أسرار) من الدرجة الأولى، وقد أتاحت لي هذه الأسرار الاطلاع على تجارب الآخرين، ومن ثم أخذ الحكمة منها، كانت هذه وسيلة تهذيب ذاتي لنفسي، لكن مع الأيام تحولت كتابة اليوميات إلى وسيلة تطوير ذات، أثبتت الأيام مدى فعاليتها في صقل موهبة الكتابة عندي، وأرشفة كل ما كنت أتعلم سواء من القراءات أو من معاملاتي اليومية مع الآخرين، التي كنت أدونها كل مساء، فكانت تساعدني في التفكر والتدبر، ومنها تعلمت أن أعيش بوعي، وأهتم بالتفاصيل، فتحولت إلى طفلة مسكونة بالدهشة على الدوام، فما كان يمر به أقراني مرور الكرام، كان يستوقفني أنا، ويجبرني على الوقوف عليه، وفهمه، مع الأيام تحولت اليوميات إلى وسيلة لرفع المعنويات وتعزيز ثقتي بنفسي، إذ عندما أعود لقراءات يومياتي السابقة، يدهشني المواقف الصعبة التي مرت بي، والتي استطعت أن أتجاوزها، فتعلمت بأني استطيع تجاوز أي موقف صعب يمر بي طالما استطعت في السابق أن أتجاوز غيره، عندما بدأت مرحلة وضع الأهداف كانت اليوميات التي أكتب عونا لي في رسم أهدافي وقياس أدائي فيها ومن ثم تحقيقها، فكثير من الأحيان أعود ليوميات سابقة لأستذكر اللحظات الأجمل في حياتي على سبيل المثال، مالذي كنت أفعله حينها، ومالذي ولد لدي تلك المشاعر الجميلة حينها، الأمر الذي ساعدني على تحديد شغفي، وميولي الذاتية، وبالتالي رسم أهدافي حولها، أعود أحيانا لدراسة بعد المواقف في حياتي التي أكون قد نجحت في تحقيق هدف ما وأستعيد الخطوات التي اتخذتها في ذلك الوقت، والدوافع التي ساعدتني على تحقيق الهدف، ومن ثم أكرر ما فعلت على أهدافي الحالية، وهكذا تحولت يومياتي إلى مصدر تحفيز حقيقي في حياتي، فقد أدركت أننا نميل كثيراً إلى نسيان إنجازاتنا إذا ما لم ندونها، وبالتالي التقليل من شأنها، كما أن التجارب الفاشلة غالبا ما تسيطر على ذاكرتنا بسبب الألم المقرون بها، فنتذكر دائما إخفاقاتنا وتجاربنا الفاشلة، لذا فإن الكتابة تتيح لنا أن نكون منصفين مع ذواتنا، عندما نعود لقراءتها ونكتشف أننا مقابل كل فشل مر بنا، هناك عشرات النجاحات التي حققناها، سواء كان هذا النجاح هو تجاوز طفولة صعبة، أو إنهاء مراحل دراسية عجز غيرنا ممن كانت لديه الظروف نفسها من أن يتجاوزها، إلى علاقات جميلة تمكننا من الاحتفاظ بها عبر السنون..الخ، اليوم تشير كثير من الدراسات أن الأشخاص الذين يمارسون الكتابة يتميزون بنشاط ذهني أكبر بكثير من غيرهم، كما أثبتت الدراسات أن ممارسة الكتابة تقي الإنسان من مرض الخرف الذي يصيب كبار السن عادة، فضلاً عن فعاليته في معالجة بعض الأمراض النفسية، الأمر الذي دعا بعض المعالجين إلى إدخال الكتابة في علاج مرضاهم، شخصياً أنصح دائماً من يلجأ إلي طلبا للمشورة في وضع نفسي يمر به أن يلجأ للكتابة، ذلك أن وضع الأفكار والمشاعر على الورق يعطيها بعداً مختلفاً، فالكتابة تساعد على تصفية الذهن بشكل كبير جداً، وتساعد على التفكير التحليلي؛ لأن رؤية الكلمة مكتوبة على الورق، تجبرك على التفكير فيها، والنظر إليها من زوايا مختلفة تماماً، لذا ألجأ شخصياً دائماً إلى الكتابة عندما أواجه أية مشكلة سواء في العمل أو في حياتي الخاصة، وبالنسبة لي شخصيا فإنني دائما ما أركز على الإيجابيات عندما أكتب يومياتي، إذ أنني أعتقد بان الأفكار السلبية هي المسيطرة على أذهاننا في الغالب، فلا أريد لها أن تسيطر على حياتي، وقد ساعدني ذلك على هذه النظرة الإيجابية للأمور التي يرى من حولي انني أتصف بها.

ليست هناك تعليقات: