12‏/01‏/2015

علوم وعلوم

ظلت العلوم الانسانية محط اهتمام الانسانية لفترة طويلة من الزمن حتى جاء عصر المعرفة وحلت العلوم التطبيقة محلها، وبدأت سوق العمل والوظائف المتاحة هي التي تحدد نوعية الدراسة التي ينتهجها الفرد، فقل الاهتمام بالعلوم الانسانية بشكل كبير خاصة في المجتمعات المتقدمة، فبعض الشهادات الجامعية في هذه العلوم باتت مصنفة ببساطة شديدة في فئة غير المرغوب فيها في سوق العمل، فقد أظهرت دراسة أجريت في بريطانيا – على سبيل المثال – من قبل معهد التعليم أن خريجي كليات الآداب في تخصصات مثل التاريخ والجغرافيا والعلوم الانسانية ، يحصلون على رواتب تعادل تلك التي يحصل عليها خريجو (دبلوم التعليم العام) في كثير من الأحيان، في المقابل فإن خريجي التخصصات الأخرى مثل (المحاسبة) على سبيل المثال قد يجني الخريج فيها 40% أكثر من التخصصات الأدبية التي أشرنا إليها، من حيث الأجر، ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للدراسات العليا وخاصة الماجستير، إذ تأتي الشهادات العليا في مجال الآداب والعلوم الانسانية في ذيل القائمة ، فيما تتصدر الشهادات العليا ذات الطبيعة العلمية رأس القائمة، في زمن باتت الكلمة الفصل فيه لمتطلبات سوق العمل وقل الاهتمام بعلوم جميلة تهذب النفس، والعقل على حد سواء وتغذي الروح كالفلسفة والأدب والفنون، التي تراجعت بشكل كبير أمام سيطرة العقل والحاسوب والمادة وأهمل جانب مهم من جوانب الحياة الانسانية، لكن من الملاحظ أن هناك اتجاها اليوم في الغرب للعودة إلى الروحانيات وبالتالي الاهتمام بالفنون بأنواعها والديانات والأدب، ولعل من شأن ذلك أن يعيد بعضا من التوازن لحياتنا ، التي لا يمكنها ان تستمر على محور العقل وحده، وقد عرف البعض العلوم الإنسانية بأنها “مجموع العلوم التي تتناول الإنسان بمنهجية موضوعية” وهي تضم مجموعة من العلوم كعلم النفس الذي اهتم بدراسة العمليات العقلية والوجدانية للإنسان، وعلم الاجتماع الذي يتناول العلاقات والمؤسسات اجتماعية المؤطرة لسلوك الإنسان، وعلم الجغرافيا الذي عني بدراسة علاقة الانسان بالبيئة المحيطة به، وكذلك علم الاقتصاد الذي يعنى بدراسة السلوك الاقتصادي للأفراد والمجتمعات كالإنتاج والاستهلاك والادخار وتبادل السلع والخدمات، أما علم التاريخ فيعالج الحقب الماضية وتأثيرها على حاضر البشرية، فهي كنز من التجارب والمعارف التي تراكمت عبر العصور، وهي نتاج فكري وحضاري لاغنى عنه، فكما قيل : فإن حضارة لاماضي لها هي حضارة بدون مستقبل، والعلوم الانسانية هي من العلوم القديمة التي عرفتها الحضارات منذ القدم لكنها اتسعت اليوم لتشمل علوما جديدة كالاقتصاد وعلم النفس والتنمية البشرية والسياسة وعلم الاجتماع وغيرها، وهي ايضا تشمل الآداب والفنون باشكالها كما ذكرنا، وقد ظلت هذه العلوم محط دراسة وإهتمام الحضارات على مر التاريخ كالحضارات اليونانية والاغريقية التي اهتمت بالفلسفة والفنون ، ومن بعدها الحضارة الاسلامية التي بنى علماؤها على تراث الاغريق واليونانيين وأبدعوا فيه، خاصة في علوم المنطق والكلام، وكذلك برع علماء الاسلام في الشعر والأدب والاجتماع وأبلوا فيه بلاءً حسنا، وكان العلماء يحظون بشهرة واحترام كبيرين في المجتمعات، حتى ظهرت طبقة جديدة في المجتمع الاسلامي تسمى بطبقة العلماء حظيت باهتمام خلفاء المسلمين، وكذلك كان الشعراء مقربين جدا من الخلفاء الذين كانوا أنفسهم يقرضون الشعر ببراعة، حتى نقل عن الخليفة عبد الملك بن مروان قوله لبنيه: (يا بَنيّ تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطًا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم)، اليوم يبدوا أن البشرية أدركت ضرورة وجود توازن بين الروح والقلب والجسد، ومن الصعب جدا أن نعيش بالعقل وحده، فهذه الاختراعات من حولنا وإن كانت هي نتاج فكر، لكن لاغنى عن الابداع المقرون بالشغف فيها، الشغف الذي يجعل الجلوس لساعات طويلة في الابتكار محتملا وممكنا، الابداع الذي هو مصنع الفكر، والذي لايمكن أن يبنى ايضا بمعزل عن التجارب الانسانية التي سبقته، فكل ماحولنا وإن كان قد ارتبط بمخترع معين، لكن هذا المخترع بني على أفكار وأبحاث من سبقوه، واليوم هناك دعوات لإضافة الجمال لبيئة العمل متمثلا في الموسيقى الهادئة التي تساعد على الاسترخاء، وتخفف من تأثير ضغوط العمل، وكذلك الأشجار التي باتت جزءا مهما من الأثاث المكتبي الحديث، وقد تبنت كثير من المؤسسات برامج لتنمية الهوايات لدى موظفيها، بعد أن أظهرت الدراسات علاقة وثيقة بين إنتاجية الموظف وصحته النفسية وبين وجود هواية يمارسها بشغف، وغالبا ما تكون هذه الهوايات هوايات فنية كالكتابة، والرسم والموسيقى، التي تحفز على الإبداع، وبالتالي تزيد الإنتاجية.

ليست هناك تعليقات: