03‏/12‏/2014

إن كبر ابنك

كثير من الأشخاص يعترفون بأن أطفالهم غيروهم تغييرا جذريا، فقد وجد هؤلاء أنفسهم مسؤولين عن حياة أفراد آخرين، ستشكل تربيتهم لهم حياتهم وتحدد مصيرهم إلى الأبد، فوجد هؤلاء الآباء أنفسهم أمام خيار وحيد وهو أن يكونوا قدوة صالحة لأبنائهم، الذين يحملون أمانة تنشئتهم وتربيتهم، فاضطروا إلى التخلص من كثير من عاداتهم وسلوكياتهم غير المحببة من أجل هؤلاء الصغار، شخصيا عندما أقول بأن ابنتي أعادت تربيتي من جديد، فإنني لا ابالغ على الاطلاق، فقد تغيرت تغيرا جذريا بعد ولادتها، فكأي أم كنت حريصة كل الحرص على أن أربي ابنتي تربية صالحة، وازرع فيها الوازع الديني، وأربيها على الخلق القويم، وفي الوقت ذاته أجعل منها فتاة عصرية، واثقة من نفسها، مطلعة وموهوبة، وذات شخصية قوية مستقلة، أردتها أن تحظى بحب الناس واحترامهم أينما كانت، وأن تكون أنيقة معتدة بنفسها، أردتها أن تحصل على كل ما لم أحصل عليه في حياتي، وأن تحقق ما عجزت عن تحقيقه، أردت أن تأخذ كل إيجابياتي وتترك كل سلبياتي، وبذلت في سبيل ذلك مجهودا جبارا، قرأت كما هائلا من الكتب في فن التربية، اتبعت شتى أساليب التربية التي أعرف والتي لم أعرف، ومن ضمنها النصح والتوجيه والارشاد، لكنني كنت ألاحظ أن كل نصائحي، وكل أساليبي تذهب أدراج الرياح، وشيئا فشيئا بدأت ألاحظ نفسي في تصرفاتها، ووالدها في بعض حركاتها، لاحظت أنها وفي سن صغيرة جدا بدأت تتطبع بأطباعنا، وتتصرف بطريقتنا، أفزعني هذا الأمر كثيرا، وحينها فقط أدركت بأنه علي ان أكون قدوة صالحة لابنتي، وأنه لا جدوى من زرع قيم فيها أتصرف أنا ضدها، ولا جدوى من نصحها بنبذ سلوكيات خاطئة إن كنت أنا البالغة غير قادرة على التخلص من هذه السلوكيات، وهكذا كان علي أن أعيد تربية نفسي من جديد لأجل عيون طفلتي، عملت جردا لكل السلوكيات الخاطئة التي أمارسها، وضعت خطة للتخلص منها شيئا فشيئا، نظفت خزانة المطبخ والثلاجة من كل المأكولات التي لا أريد لابنتي أن تأكلها، وغيرت قائمة مشترياتي، وطريقة إعدادي للطعام، غيرت نظام البيت الغذائي بالكامل، وهجرت الكوكاكولا التي أعشق إلى الأبد، فعندما كانت طفلتي تبلغ الرابعة من العمر أخذتها لتناول العشاء في أحد مطاعم الوجبات السريعة برفقة بعض نساء العائلة واطفالهن، أثناء العشاء كنت مندمجة في الحديث مع رفيقاتي فلم أنتبه إلا ويدا بالغة الصغر تلمس يدي برقة، التفت فإذا بصغيرتي تحاول لفت انتباهي لشيء ما، رفعت عيني فوجدت أنها ثبتت عيناها على قدح الكوكاكولا المثلجة في يدي، وتسمرت نظراتها على الشفاطة التي كنت أسحب بها المشروب الغازي بتلذذ، وبادرتني قائلة: ماما الكولا مضرة للأطفال أمثالي لكن ليس للكبار أليس كذلك؟، لا أدري كيف أصف لكم شعوري في تلك اللحظة، لكنني شعرت بألم حاد يعتصر قلبي، وشعور جارف بالخجل من طفلتي التي حرمت عليها شرب المياه الغازية والمشروبات الصناعية بأنواعها، في الوقت الذي اشربها أمامها، ناولتها القدح الذي كان في يدي لتأخذ منه رشفة عن خاطرها، قائلة: لا يا حبيبتي هذا المشروب ضار جدا بالصغار والكبار على حد سواء لذا قررت ماما الا تشربه بعد ذلك، ومن يومها قررت أن أتخلص من إدماني على الكولا وإلى الأبد، نبذت أيضا كلمة لا أستطيع من قاموسي قدر المستطاع، وغيرت اسلوب أدائي لعملي، حتى الأناقة التي كنت أقنع نفسي بأنها مهارة تولد مع الشخص ولا يمكن تعلمها، حاولت أن أتعلمها من أجل عيون صغيرتي، بدأت لأول مرة ألاحظ ما تلبسه النساء من حولي، كنت اتفحص المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها، دارسة كل تفاصيل أناقتها، حتى المرأة غير الأنيقة كنت اتفحصها جيدا لأرى ما الذي ينقصها، وأحاول جاهدة تجنب أخطائها، بدأت أرتاد المحلات الراقية، وأدخل مواقع نسائية تعنى بالأناقة، لست مثالية ولست كاملة بلاشك، وهناك الكثير جدا من العيوب التي أدرك بأن علي العمل على معالجتها في شخصيتي، كبرت طفلتي فأصبحت تنبهني لها باستمرار، ويبدو أن الأدوار انقلبت فأصبحت هي تنبهني عندما أبدأ بالشكوى والتذمر مثلا، أو حين أذكر شخصا ما بسوء، أو أتخاذل عن بعض الواجبات، سعدت بذلك كوننا أقرب إلى الصديقات منا إلى أم وابنتها مع بقاء خط أحمر لا يتم تجاززه هو خط الاحترام، لكن ربما أن أهم درس تعلمته هو أن الدافع أقوى الوسائل لتحقيق الهدف، فبعض العادات والسلوكيات كنت أظن بأنه من المستحيل التخلص منها، لكنني تجاوزتها، هكذا بدأت عندما اصيغ هدفي أضع خانة لدواعي تحقيق هذا الهدف مما يمنحني حافزا لتحقيقه، تعلمت ايضا أن من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم حقيقة، وأننا فعلا نتطبع بأطباع من نعاشر لفترات طويلة دون أن نعي ذلك.

ليست هناك تعليقات: