27‏/10‏/2014

فنون العمل العمانية


        
عندما تلقيت دعوة المنتدى الأدبي لتقديم ورقة عمل بعنوان (فضاءات التواصل في الفنون الشعبية العمانية – الزراعة أنموذجا)، خطرت لي فكرة الاعتذار عنها مباشرة، فالموضوع بعيد كل البعد عن مجال اهتمامي، المنصب في التنمية البشرية في الغالب، أو حتى مجال عملي في مجال التأمين الاجتماعي، لكن كممارسة للتنمية البشرية عودت نفس على سؤال فتح لي ابوابا كثيرة خلال السنوات الماضية الا وهو(لم لا؟)، ومن اللحظة التي شرعت فيها في العمل على المشروع اكتشفت إلى أي حد كنت مخطئة لكوني تصورت أن موضوع الورقة لا علاقة له بالتنمية البشرية، إذ اكتشفت أنه من صميم عمل التنمية البشرية، فموضوع الورقة يدور حول ما يسمى بفنون العمل، وهي مجموعة من الأهازيج التي كان العمانيون يؤدونها أثناء ممارستهم للعمل، من باب كسر روتين العمل، والتسلية والترفيه عن الذات، إلى جانب التحفيز وشد الهمم، إذ كان عمل العماني هو حياته، مزارعا كان أو بحارا أو تاجرا، وكان العمل هو وسيلة تواصل وهو رياضة وهو لعب، يمارس من قبل جميع أفراد المجتمع في الغالب، صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا، وفي ظروف مناخية صعب للغاية، وإمكانيات محدودة، مما حدا بالانسان العماني إلى الاستعانة بهذه الفنون، لشحذ الهمم، والتغلب على إرهاق المهام، وتؤدى هذه الفنون إما فردية أو جماعية حسب الأحوال، وإن كان علم التنمية البشرية قائم على فلسفة التفكير الايجابي فإن العمانيين كانوا قمة في الايجابية، والتوكل على الكريم المنان في جميع شؤون حياتهم، وفي أهازيجهم أمثلة حية على هذه الايجابية كأهزوجة (رزقك على الله ياطير، يالله بصباح الخير)، وكرمز لليقين تتطلب صياغة الأهداف في التنمية البشرية أن تصاغ بصيغة المضارع، وهو ما فعله الأجداد فعلا ففي أهزوجة فن (التصييف) أي حصاد القمح دليل حي على ذلك؛ حيث تقول الأهزوجة: دقوه دقوه، فيه مافيه، دقوه دقوه كلنا غوازيه، والغوازي طبعا هي النقود، فلا مجال هنا للتخاذل أو التشاؤم، فقد اعتبرت النقود منصرفة حتى قبل أن تنجز المهمة، أيضا حوت الأهازيج عن كم هائل من عبارات التحفيز، وذلك لكون قدرات الأفراد متفاوتة، فمنهم الصغير ومنهم الكبير ومهم الضعيف ومنهم القوي، وخاصة أن الأعمال عادة ما تؤدى بشكل جماعي وفي ظروف مناخية صعبة، مما يؤدي الارهاق بالأفراد إلى التخاذل أحيانا، فيأتي صوت المغني مثيرا للهم ومحفزا، العمل على العرض ايضا كان فرصة لي شخصيا لطرق أبواب من المعرفة ماكنت سأفكر في طرقها في الظروف العادية، فكان اكتشافا رائعا تلو الاكتشاف ذلك الذي قادني إليه البحث، فقد اضطررت إلى العودة إلى الماضي الجميل لهذه البلاد، واسترجاع الذكريات التي ارتبطت بالأماكن التي مررت بها بدءا من مرحلة الطفولة وحتى اليوم، والاطلاع على جانب رائع من ثقافة عمان الزاخرة بالفنون الحركية منها أو الصوتية، التي تشكل نموذجا رائعا من الابداع في مجال الفنون الشعبية التي تشكل ذاكرة البلدان، وأهم نتاج للإنسانية عبر العصور، مما جعلني اشعر بالامتنان حقا للقائمين على المنتدى الأدبي لهذه الدعوة التي أتاحت لي أن اساهم في توثيق هذه الفنون، ذلك أن الفنون الشعبية كغيرها من الفنون العمانية لم يتم تدوينها وتوثيقها بشكل يحافظ عليها من الضياع، وظلت تتداول وتتناقل بين الأجيال كجزء من التاريخ المروي العماني، الذي حافظ على وجوده بالرواية الشفهية والتداول اليومي والتعامل والممارسة، لكن مع التغير الكبير الذي شهده المجتمع العماني وانفتاحه على العالم بشكل متسارع، أصبح هناك قلق من ضياع هذا الموروث بعد أن تم التوقف عن ممارسته، بسبب دخول التقنية الحديثه، واختفاء كثير من العادات والتقاليد والحرف التي ارتبطت بها هذه الفنون، نتيجة انفتاح عمان على الحضارات الأخرى التي أصبحت أكثر إغراء للجيل الحالي، بما تعد به من تطور وانفتاح وحرية، الأمر الذي باتت معه قضية تدوين الموروث الشعبي قضية ملحة لابد منها، فهو جزء من الذاكرة التاريخية للإنسان العماني، الذي يربط حاضرها بمستقبلها، وهو ما جعل الحكومة  تولي عملية إحياء التراث غير المادي العماني أهمية خاصة، من خلال العمل على إحيائه وتوثيقه، وعلى الصعيد الدولي فقد أولت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) التراث الثقافي غير المادي عناية خاصة، وهو ما أكد عليه الإعلان العالمي للتنوع الثقافي الذي اعتمدته المنظمة عام 2011م، وذلك من خلال التأكيد على حماية وصون التنوع الثقافي، باعتباره واجبا أخلاقي ملزم، لا ينفصل عن كرامة الإنسان، لهذا جاء اعتماد اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي في عام 2003م، كخطوة حاسمة ضمن الجهود المبذولة للتصدي للمخاطر التي يتعرض لها التراث الثقافي الانساني غير المادي في كل بقاع المعمورة، نتيجة للعولمة والتحولات الاجتماعية التي لم يسبق لها مثيل، أتاح لي العمل على الورقة أيضا التعرف على شخصيات رائعة ما كان طريقي سيتيح اللقاء معهم بسبب اختلاف الاتجاهات ومجالات العمل، ولعل هذا كان أروع مافي هذه المشاركة على الأطلاق.

ليست هناك تعليقات: