20‏/10‏/2014

أشخاص في حياة عيديد

Share Button
أكثر ما أدهشني في حوار محمد عمر عيديد في (حديث الروح)، هي تلك الشخصيات الخيرة التي سخرها المولى لذاك الفتى العماني اليافع الذي قاده طموحه إلى ترك مسقط رأسه مدينة صلالة في رحلة مجهولة المصير، لكن في كل خطوة من تلك الرحلة كانت العناية الإلهية تنتظره على هيئة يد خيرة ترعاه وتأخذ بيده إلى بر الأمان، وأنا أتتبع هذه المسيرة استحضرت مقولة الإمام الشعراوي، جزاه الله عنا خير الجزاء: لا تجزع من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعونه هو تنفيذ مشيئة الله، فهذه السيرة هي مصداقاً لهذه المقولة، فمن اللحظة التي بدأ فيها مغامرته المثيرة بدأت الأيادي الرحيمة تتلقفه بدءا بيد الشيخ سعيد بن ناصر الحشار الذي نقله عبر (بومه) إلى مدينة مسقط، خلال هذه الرحلة وجد الطفل الصغير نفسه في مواجهة الموت، من خلال عاصفة هوجاء نجت منها السفينة بأعجوبة، من مسقط استقل سفينة (مكنزي) البريطانية إلى المنامة، ومن ثم إلى مدينة الخبر السعودية، وتلقفته أيد عمانية مقيمة في السعودية ساعدته في الحصول على وظيفته الأولى (بائع خضار) في أحد المحلات، لكن هذه الوظيفة لم تكن ترضي طموح المغامر الصغير الذي قطع كل تلك الأميال من أجله، فانتقل للعمل بالسكة الحديد بالدمام، هناك وجد العناية الإلهية تنتظره على هيئة رجل فلسطيني أخذ بيده ونصحه بتعلم الطباعة التي أهلته للحصول على وظيفة الطباع المرموقة في تلك الفترة، والتي كان يعامل فيها أسوة بالأجانب من حيث الأجور المرتفعة، فحصل على راتب خيالي بمقاييس ذلك الزمان مقداره 500 دولار أمريكي، لكن فرحة الشاب المغامر لم تكتمل ففي تلك الفترة شب صراع عسكري على واحة البريمي، فجاءت التعليمات بإبعاد العمانيين المقيمين في السعودية، فضاقت الدنيا بالشاب الذي بدأت الحياة تبتسم له، لكن الرعاية الإلهية كانت تنتظره مرة أخرى على هيئة طبيب أمريكي، رتب له السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبدون تفكير، وبشخصية تعودت على المغامرة والمخاطرة، استقل الفتى الطائرة إلى واشنطن، في المطار أدرك المغامر الصغيرأنه لا يعرف كيف يخرج من المطار، ولا أين عليه أن يذهب، أوكيف سيعيش، وكيف سيتصرف في بلد لا يعرف حتى لغتها، ومرة أخرى تأتي العناية الإلهية وتسخر له أحد موظفي المطار الذي أخذه إلى مكتب الطيران وألزمهم بمساعدته مثلما أدخلوه إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، فتم إرشاده إلى حي العرب هناك حل ضيفاً على الجالية اليمنية التي استضافه أفرادها وعاملوه كواحد منهم، فألحقوه بالمدرسة وساعدوه في الحصول على وظيفة لم يستمر بها طويلا؛ لأن مشهد المطارات التي رآها للمرة الأولى في حياته ظلت تشغل تفكيره، فقرر ركوب الباص عائدا للمطار، في الباص التقى بشاب برازيلي، عرض عليه أن يعطيه أحد عرضي الوظيفة التي حصل عليهما، والتي هو بصدد إجراء المقابلة الشخصية من أجلها، بدون تفكير أخذ عيديد عرض الوظيفة الذي كان باسم شخص آخر، بقصد تقديم مقابلة وظيفية، فقط عندما دخل غرفة المدير أدرك حجم الخطأ الذي هو بصدد ارتكابه، لكنه لم يعرف حينها بأن العناية الإلهية لم تفارقه للحظة، ذلك أن الشاب وهو يناوله أحد العرضين، لم يدرك أنه يعطيه عرض وظيفة في شركة يديرها تركي مسلم، ما أن عرف انه مسلم من اسمه حتى وافق على تعيينه، وهناك بدأت مسيرة أخرى في العمل في مجال المأكولات، لم يستمر فيها الشاب كثيراً فعاد يبحث عن وظيفة أخرى، قاده بحثه هذه المرة إلى مطعم يعمل فيه يهوديا ما إن رأى الشاب العربي حتى قام بطرده من المطعم، إلا أن أحد العمال اشفق على الشاب العربي الصغير ونصحه بمقابلة كبير الطباخين الفرنسي، الذي شاءت الصدف أن يكون من الناجين من معارك الاحتلال الفرنسي للجزائر، عندما هاجمته ورفاقه حامية جزائرية وسط الصحراء قتلت جميع رفاقه ونجا هو، وساعدته عائلة جزائرية لجأ إليها فآوته وقدمت له الطعام والعلاج حتى استعاد قواه وعاد إلى بلاده، من ذلك الحين أخذ ذلك الفرنسي عهدا على نفسه بمساعدة أي عربي يلجأ إليه، لكنه لم يستمر في العمل طويلاً فقد قاده القدر إلى مطعم معروض للبيع، ما إن سمع العرب المقيمون بالخبر حتى هرعوا لمساعدته، حيث تطوع البعض بتهيئة المكان وصبغه والعمل على إعداد الوجبات دون أن يتقاضى أجرا، لأنه رأى ان نجاح أي عربي هو من نجاحه، وحاز المطعم الذي كان كل عامل يعد فيه طعام البلد العربي الذي جاء منه إعجاب الجميع، فجاءت قائمة الطعام غنية ومتنوعة، ووصلت شهرة المطعم إلى وسائل الإعلام التي استضافت عيديد، وساهمت في شهرة المطعم الذي توافد عليه الناس من جميع الولايات، الدرس الذي تعلمته شخصيا هو أنه ما خاب ظن من توكل على الله، وأن الحياة فعلا كتاب تفتح لنا صفحاته صفحة تلو الأخرى وفي الوقت المناسب تماما، وأن بذرة الخير موجودة في كل منا تنتظر الفرصة لتظهر ليس إلا.

ليست هناك تعليقات: