12‏/10‏/2014

بعثة دراسية

دعيت للتحدث في الحفل التعريفي لخريجي جامعة ساوث كارولاينا، التي أسست رابطة زملاء الجامعة الأولى لها خارج الولايات المتحدة الأمريكية واختارت السلطنة كمقر لها، حضر الحفل بالاضافة إلى الخريجين القدامى والمسؤولين من السفارة الأمريكية، مجموعة من الطلاب الذين هم بصدد السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة، في حفل التعارف لاحظت مجموعة منهم يقفون في زاوية يتبادلون اطراف الحديث، أدركت انهم من الطلاب الجدد، فانضممت اليهم وبدأت معهم حوارا أدهشني، من كونهم يجدون معارضة من الأهل لفكرة سفرهم، كانت من ضمن الحضور سيدة جاءت بصحبة ابنتها وهي خائفة من فكرة السماح لها بالسفر رغم أن الأم نفسها خريجة من دولة أجنبية، بعض الشباب متخوف من فكرة السفر ذاتها، لم أستطع أن أمنع نفسي من مقارنة وضعهم بوضعي قبل ثلاثين سنة وانا اتلقى خبر حصولي على بعثة للولايات المتحدة، كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي، ولم يمض على النهضة المباركة أكثر من عشر سنوات، لذا فإن حياتنا في المحافظات كانت بدائية إلى حد ما، وكان الهاتف لم يدخل إلى الولايات بعد، لم يكن هناك طريقة للتواصل سوى عبر البريد، حيث كانت الرسالة تستغرق شهرا كاملا تقريبا حتى تصلنا، وشهر آخر حتى يصل الرد عليها، لم يكن هناك انترنت، ولم يولد العم جوجل بعد، لذا فإن الأسر التي وافقت على ابتعاث ابنائها، ابتعثتهم إلى المجهول، وما من وسيلة لديهم لمعرفة مصيرهم، حتى يأتون لزيارتهم بعد عام كامل، لكن كان لديهم يقين وثقة تامة بأن (قابوس) سيرعى أبناءهم طالما أنه امر بسفرهم، لأن الأسر لم تكن تملك الوعي بماهية البعثات، ولا يمكن لها حتى أن تتخيل بُعد أو حجم أمريكا التي سيسافر اليها الأبناء، كل ما كانوا يعرفونه أنها بلاد بعيدة لا يصل إليها المرء إلا عبر الطائرة، ورغم ذلك فإن قلة قليلة جدا من المبتعثين تلك الأيام عادوا دون إكمال دراستهم.
اليوم هناك كثير من البعثات– منها بعثات داخلية- ترفض من قبل الاباء والابناء خوفا من عدم التأقلم مع الغربة، ونسبة لابأس بها تعود دون أن تكمل دراستها، وبعد أن تكون قد قطعت شوطا فيها، لأنها لم تستطع أن تتأقلم مع الغربة، هذا مع وجود مئات الرحلات الجوية يوميا تجوب العالم، يستطيع الطالب أن يعود ليزور أهله متى شاء، ومع أوضاع مالية اصبح الكثيرون مهيأون لحجز تذكرة متى شاءوا، وشبكات تواصل صوتا وصورة، يستطيع من خلالها الأبوان التواصل مع الأبناء أربعة وعشرين ساعة، ومجانا. خلال الأسابيع التي تلت إعلان نتائج القبول الموحد، جاءني بعض الأصدقاء والمعارف طالبين النصح حول قرار ابتعاث ابنائهم وخاصة البنات منهم للخارج، من خلال خبرتي كمبتعثة ومن ثم كأم لمبتعثة، بالنسبة لي أعتقد بأن القرار يعود للأسرة في المقام الأول، وإلى الطالب، فظروف كل شخص تختلف عن الآخر، وأيضا قدرات الاشخاص تتفاوت، هناك فعلا من لا يتحمل الغربة، وقد صادفني الكثير منهم، حاولت اقناعهم بعدم العودة قبل انهاء الدراسة، لكنهم حزموا حقائبهم وعادوا قبل اكمالها، وهناك مئات البعثات يعاد طرحها سنويا من قبل وزارة التعليم العالي لأشخاص تنازلوا عنها إما قبل السفر أو بعده، لكنني شخصيا أعتقد أنها فرصة لا تقدر بثمن، الموضوع ليس دراسة بالنسبة لي، وليس شهادة بقدر ماهو (التجربة) ذاتها، وهي تجربة فريدة وثرية، لا يعود فيها الطالب كما ذهب أبدا، فكم التغيير الذي يحدث في شخصيته نتيجة خوض تجربة الابتعاث مذهل، قابلت شخصيا آلاف المترشحين لوظائف على مدى 20 سنة من عملي في الموارد البشرية، ولا مجال أبدا للمقارنة بين خريجي الجامعات المحلية وخريجي البعثات الخارجية، الشهادة واحدة لكن الشخصية مختلفة تماما، فالغربة تصقلها بشكل مذهل، تمنح الفرد مجموعة من المهارات الحياتية التي يتطلب منه اكتسابها عقودا من الزمن داخل البلاد، يكتسبها خلال سنوات قليلة من الابتعاث، وهي المهارات التي تحتاجها بيئة العمل، من روح المبادرة والثقة بالنفس التي يكتسبها المرء من تجارب الغربة اليومية، التي يتعلم من خلالها أن ما لن يقتلك سيقويك، التجارب الصغيرة التي يمر بها ويتجاوزها بنجاح تمنحه دافعا لتجربة ما هو أكبر، كما أن الاحتكاك بالاخرين من ثقافات مختلفة تعلمه احترام الاختلافات بين البشر، وبالتالي احترام من يختلف معه سواء في الرأي أو المعتقد أو الاتجاه، ولاشك أن الغربة تجعل المرء أكثر قوة، ويتعلم من خلالها الطالب الاستقلالية سواء في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بحياته بعيدا عن رقابة الوالدين، أو بشأن دراسته، قديما قيل في السفر سبع فوائد، وأظن بأنها أكثر من ذلك بكثير، هي فرصة سنحت لابنك لا تحرمه منها، خاصة أنه لابد أن يكون قد فاز بها بعد جهد من الدراسة والمثابرة طوال كل تلك السنين، ربما هذه فرصة لتكافئه على جهده، إن استطعت لذلك سبيلا طبعا..

ليست هناك تعليقات: