15‏/07‏/2013

هيئ نفسك لبعثة ابنك

     قبل سنة من الآن كان علي أن أودع فلذة كبدي،التي اختارت أن تكمل دراستها الجامعية في الخارج، ولكوني ووالدها ممن من الله سبحانه وتعالى علينا بالدراسة في الخارج، كنا حريصين على تعيش ابنتنا ذات التجربة، أمام استنكار شديد ممن حولي، كثيرون وصفوني بالجنون في وجهي والبعض وصفني بالقسوة من وراء ظهري، كثيرون كانوا يرددون بأنهم يدركون شعوري، والحقيقة أن لا أحد على الإطلاق كان يدرك ما كنت أشعر به، ولا أظن أن إنسانا قادر على ذلك، أن تودع فلذة كبدك بعد 18 سنة من التعلق الشديد به ليس بالأمر الهين على الإطلاق، وحين يكون هذا الطفل هو طفلك الوحيد فلا مجال لوصف الشعور المدمر بالفقد والوحدة والهلع الذي يشعر به الوالدان، لكن يبقى دائما ذلك الجزء الصغير من العقل الذي يعمل المنطق، ويمنحنا القوة على التغلب على أنانيتنا من أجل مصلحة من نحب، أكتب هذا المقال اليوم ونحن على مشارف إعلان نتائج الثانوية العامة، وهناك العديد من الأمهات والآباء المقبلين على اتخاذ قرار مماثل، البعض ستخونه شجاعته وسيتراجع في اللحظة الأخيرة، ولكن البعض سيستجمع كل قوته ويودع فلذة كبده، بالنسبة للكثيرين تتساوى الغربة داخل الوطن وخارجه لذا حتى لو جاءت المنحة في محافظة أخرى داخل السلطنة ستواجه بالقرار ذاته، فما بالك خارج الوطن، كثيرون يمضون سنوات يهيئون أطفالهم لهذه اللحظة، فقط ليكتشفوا أنهم كانوا الأحوج لتهيئة أنفسهم، فالطفل أشجع وأقوى بكثير منا نحن الوالدين، فضوله وحماس الشاباب تجعله يتوق للغربة، ويتأقلم معها سريعا، لكن الوالدين هما من يكون وقع الأمر عليه صعبا،  إن كنت غافلا عن هذه الحقيقة، لم يفت الآوان لديك أسابيع لتهيىء نفسك لتوديع طفلك، والتصرف بحكمة وعقلانية قبل أن ترفض تلك البعثة الخارجية، لأنها أفضل استثمار في مستقبل طفلك يمكن أن تساهم فيه، خاصة وأن طفلك استحقها عن جدارة إن كان قد حصل على بعثة دراسية، فمن غير العدل أن تحرمه منها هناك من يعطي حججا بأن الدراسة دراسة سواء كانت في عمان أو خارجها، لكن اسمحوا لي أن اختلف فلا مجال أبدا للمقارنة بين الدراسة في الخارج وبين الدراسة داخليا، بغض النظر عن التحصيل الدراسي، فإن تجربة الغربة والعيش في الخارج لا يعادلها تجربة في صقل شخصية ابنك وتوسيع مداركه وتقوية شخصيته وإكسابه مهارت حياتية من الصعب أن يكتسبها داخل عمان، إنها تجربة لا تقدر بثمن على الإطلاق، وهنا أتحدث عن تجربة شخصية مررت بها مرتين، وأعترف دائما بأن تجربة الغربة هي أجمل تجارب حياتي على الإطلاق وأكثرها ثراء، لقد جعلت مني شخصا مختلفا تماما، وعلى الرغم من أن الفترة بين التجربتين كانت تتجاوز العقد من الزمن مع اختلاف مستوى النضج والتجربة والخبرة لكنني تعلمت كثيرا أيضا من تجربة الدراسة العليا في الخارج ربما أكثر مما تعلمته من تجربة الدراسة الجامعية، وهذا ما زاد من قناعتي أن أعطي لطفلتي فرصة التجربة، وتهيئة نفسك كوالد لهذه التجربة تبدأ قبل وصول ابنك أو ابنتك إلى المرحلة الثانوية، من خلال مجموعة من الخطوات التي أرى شخصيا أنها تسهل عليك كثيرا فراقهم، وأهم هذه الخطوات هو أن تعزز فيهم روح الشجاعة والاعتماد على النفس لأن هذا من وجهة نظري سيشعرك أنت بالاطمئنان على ابنك قبل أن يكون عونا له هو على مواجهة الغربة، تهيئة نفسك لمرحلة ترك أبنائك للمنزل من خلال الإيحاء الدائم بأنه سيأتي عليه يوم ويترك البيت،  ذلك أنه إن لم يتركك الأبناء للدراسة سيتركونك يوما للعمل أو الزواج، انظر فقط أين أنت الآن وأين هم والداك، فلا تحرم أبناءك من فرصة التعليم خوفا من الابتعاد عنهم، توقف عن ترديد عبارة كيف سأعيش من غيرك أمام أبنائك، لأن ذلك قد يؤثر على قرارهم بقبول البعثة من عدمه حتى وإن كانوا يرغبون فيها بشدة خوفا عليك، صدقني أنك ستعيش فلم أسمع عن أحد من قبل مات لأن ابنه حصل على بعثه دراسية، فكر جيدا قبل أن ترفض الفرصة،إذا كنت قد ربيت طفلك على الخلق القويم وزرعت فيه مبادئ متينة وقيما فثق بأنه سيكون في أمان أينما ذهب،  اشركه في اتخاذ القرار فتلك هي فرصته للمشاركة في رسم مستقبل حياته، فلا تريد أن يأتي يوم يذكرك ابنك بأنك وقفت في سبيل نجاحه، هذا وقت تظهر فيه دعمك لطفلك فلا تخذله،لا تعتقد بأنك تعرف طفلك، لأنك ستفاجئ عندما تضعه في التجربة بأنه أقوى وأشجع مما توقعته بكثير، عندما يسافر لا داع من ترديد عبارات البيت موحش من دونك، ولا تكثر الاتصالات لأن ذلك يضعف عزيمته، لا تعط مجالا للمحيطين بك أن يضعفوا من عزمك من خلال مناقشة موضوع بعثة ابنك مع كل من قابلت، غير الموضوع ولا تسمح لأحد بأن يجرك للحديث عنه دائما، لن يكون الأمر سهلا على الإطلاق لكن هي فترة بسيطة ستتعود بعدها على بعدهم وستتأقلم مع فكرة غيابهم، تذكر فقط بأنه غياب مؤقت وأنه سيعود لك شاكرا لك ما حييت التجربة التي منحته إياها!.

هناك تعليقان (2):

علي موسى يقول...

سلام عليكم..
صوت العقل والعاطفة الصادقة دائماً معاً تجدها هنا ، اقر الله عينك بمن بعثتِ وعيون كل انسان له غائب يجاهد لمستقبل افضل.
الحمد الله بدأ الكثير يدخر المال مبكراً لتسنى لابناؤه تكملة دراستهم ، لان الثروة الحقيقة في العلم وبه تأتي كل ثروة ، ولنا في شعوب تدخر لتعلم ابناءهم رغم العوز مثال يجب يحتذى.
حتى يأذن الله بحديث دافئ كونوا قريري العين بما تقدمون.

Unknown يقول...

اللهم آمين، اللهم آمينـ شكرا لك أخي علي