أعجبت جدا بمصطلح (الهاربون من الحياة) في وصف الدكتورة سوزان جيفرز صاحبة كتاب استشعر الخوف وتصرف رغما عنه في وصفها لمدمني العمل، إذ أن إدمان العمل هو فعلا هروب من متع الحياة، حيث يأتي العمل عند هذه الفئة من الناس على قائمة أولوياتهم وعلى حساب حياتهم الأسرية وصحتهم البدنية والنفسية والعقلية وهواياتهم وحتى على حساب لحظات من الخلود للذات، يعيشون على هامش الحياة ويتفاخرون أمام الاخرين بإدمانهم الايجابي وتفانيهم في عملهم، والاجازة الوحيدة التي يأخذها مدمن العمل هي فترة الاقامة الاجبارية في المستشفى بعد أن يستسلم جسده للإجهاد و يعجز حينها عن المقاومة والاحتمال، لدرجة أن البعض فعلا يتمنى أن يمرض لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع أن يتوقف فيها عن العمل، فحتى إجازاته ورحلاته العائلية تتحول إلى مهمة عمل، خاصة مع انتشار استخدام الهواتف الذكية اليوم التي مكنت الفرد من نقل مكتبه معه إلى أي مكان وفي اي وقت، البعض يفاخر بهذا الادمان مدعيا أنه إدمان ايجابي لكن للاسف الادمان سواء كان على عمل أو على شيء آخر هو ظاهرة غير صحية وخلل سلوكي يتطلب تدخلا، مهما كانت المبررات التي يحاول مدمن العمل أن يقنع نفسه بها، ككون العمل المتواصل ممارسة عملية إلا ان الدراسات تشير إلى ان الانسان الذي يعمل بشكل متواصل على هذا النحو لا ينتج افضل من غيره، وهناك من يتحجج بعائلته التي يعمل هذا من أجلهم غير مدرك أن انهماكه في العمل وبعده عنهم لا يجلب لهم السعادة بقدر ما يحرمهم من وجوده بينهم، ثم من قال أنك لن تستطيع ان تحقق الرخاء المادي إلا بالعمل المتواصل، وحتى لو حققت الثراء الذي تطمح إليه فهل ستتوقف حينها عن العمل؟ على الأحرى ستكون الإجابة بالنفي وستستمر في العمل، مهما كانت الأسباب التي تقنع بها نفسك فما هي سوى أعذار واهية، لأن إدمان العمل ليس حلا بقدر ما هو هروب من المسؤولية ومن مواجهة الحياة، هروب من مسؤوليتك تجاه تربية أبنائك الذين لا تعرف كيف تتعامل معهم، هروب من مشاكل زوجة ظننت عندما اخترتها بأنها ستكون سكنا وجنة تأوي إليها بعد يوم عمل مرهق، فوجدتها حنانة رنانة، هروب من ضعفك في مواجهتها ومواجهة ألمك وتحديات الحياة خارج جدران المكتب، هروب من إحساسك بانعدام ثقتك بنفسك وتقديرك لذاتك، هروب من خوفك ربما، هروب من حياة خاوية وفشل ذريع في اقامة علاقات إيجابية مع من حولك يمكن أن تكون ملاذا وملجأ آمنا من منغصات الحياة، فقررت أن تكون وحيدا بين جدران مكتبك مع إقناع نفسك ومن حولك بكون هذا بطولة وتفانيا من طرفك، لكن ترى إلى متى سيستطيع العمل توفير هذا الملاذ الآمن لك، سيأتي عليك يوم تتقاعد فيه، وستجد أنك في غفلة انشغالك فشلت في تكوين حياة خارج جدران المكتب، وعلاقات العمل ستتوقف بتوقف ممارستك لمهام عملك، وستجد نفسك وحيدا تصارع فراغ التقاعد لأنه لم يكن لديك الوقت الكاف لبناء علاقات صحية تكون لك عونا على السنين، وزوجتك وأطفالك الذين هربت منهم في قوتك ستتحول إلى مصدر إزعاج دائم لهم، وسيبدأون هم ايضا في التذمر من وجودك الدائم الذي لم يعهدوه، قد يكون الوقت لم يتاخر كثيرا للكثيرين منا ممن لجؤوا للعمل هربا من الحياة، وقد تكون الفرصة سانحة اليوم لترتيب الأولويات ومصارحة الذات وإعادة ترتيب الأوراق قبل ان يفوت الأوان، لن أدعوكم ونفسي إلى التوجه لعيادة طب نفسي كما توصي الكاتبة في كتابها الذي اشارت إليه في بداية المقال، لكن ربما يكفي شيء من تفويض الصلاحيات والابتعاد عن السعي نحو الكمال، لأن الكمال لا وجود له حتى في عملك أنت، امنح نفسك إجازة تستحقها بين حين وآخر ولتكن إجازة حقيقية تبتعد فيها عن أجواء العمل وكل ما يتعلق به، وثق بأنك لست المخلص الوحيد للمؤسسة ولست الوحيد الذي تهمه مصلحة العمل، هناك قلوب متفانية كثيرة من حولك تنتظر الفرصة لإثبات الذات والظهور، فلا تحرمها من هذه الفرصة بتعنتك واصرارك ان تكون الكلمة الأولى والأخيرة لك، امنح أطفالك الوقت الذي يستحقون، لأنك وفي غمضة عين ستجدهم وقد كبروا وانطلقوا يمارسمون حياتهم بعيدا عنك، استمتع بوجودهم حولك الان فهذه المرحلة من عمرهم لن تتكرر ابدا، وهي أجمل المراحل على الاطلاق في حياة أطفالك، شاركهم فيها، ليشاركوك شيخوختك وسنوات عجزك، الحياة اقصر بكثير مما نظن، ومن العبث ان نقضيها بين جدران المكاتب وأكوام الأوراق، فالحياة الحقيقية تقع خلف الأسوار وليس بداخلها
If a man for whatever reason has the opportunity to lead an extraordinary life, he has no right to keep it to himself. (Jacques-Yves Cousteau)
13/01/2013
الهاربون من الحياة
أعجبت جدا بمصطلح (الهاربون من الحياة) في وصف الدكتورة سوزان جيفرز صاحبة كتاب استشعر الخوف وتصرف رغما عنه في وصفها لمدمني العمل، إذ أن إدمان العمل هو فعلا هروب من متع الحياة، حيث يأتي العمل عند هذه الفئة من الناس على قائمة أولوياتهم وعلى حساب حياتهم الأسرية وصحتهم البدنية والنفسية والعقلية وهواياتهم وحتى على حساب لحظات من الخلود للذات، يعيشون على هامش الحياة ويتفاخرون أمام الاخرين بإدمانهم الايجابي وتفانيهم في عملهم، والاجازة الوحيدة التي يأخذها مدمن العمل هي فترة الاقامة الاجبارية في المستشفى بعد أن يستسلم جسده للإجهاد و يعجز حينها عن المقاومة والاحتمال، لدرجة أن البعض فعلا يتمنى أن يمرض لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع أن يتوقف فيها عن العمل، فحتى إجازاته ورحلاته العائلية تتحول إلى مهمة عمل، خاصة مع انتشار استخدام الهواتف الذكية اليوم التي مكنت الفرد من نقل مكتبه معه إلى أي مكان وفي اي وقت، البعض يفاخر بهذا الادمان مدعيا أنه إدمان ايجابي لكن للاسف الادمان سواء كان على عمل أو على شيء آخر هو ظاهرة غير صحية وخلل سلوكي يتطلب تدخلا، مهما كانت المبررات التي يحاول مدمن العمل أن يقنع نفسه بها، ككون العمل المتواصل ممارسة عملية إلا ان الدراسات تشير إلى ان الانسان الذي يعمل بشكل متواصل على هذا النحو لا ينتج افضل من غيره، وهناك من يتحجج بعائلته التي يعمل هذا من أجلهم غير مدرك أن انهماكه في العمل وبعده عنهم لا يجلب لهم السعادة بقدر ما يحرمهم من وجوده بينهم، ثم من قال أنك لن تستطيع ان تحقق الرخاء المادي إلا بالعمل المتواصل، وحتى لو حققت الثراء الذي تطمح إليه فهل ستتوقف حينها عن العمل؟ على الأحرى ستكون الإجابة بالنفي وستستمر في العمل، مهما كانت الأسباب التي تقنع بها نفسك فما هي سوى أعذار واهية، لأن إدمان العمل ليس حلا بقدر ما هو هروب من المسؤولية ومن مواجهة الحياة، هروب من مسؤوليتك تجاه تربية أبنائك الذين لا تعرف كيف تتعامل معهم، هروب من مشاكل زوجة ظننت عندما اخترتها بأنها ستكون سكنا وجنة تأوي إليها بعد يوم عمل مرهق، فوجدتها حنانة رنانة، هروب من ضعفك في مواجهتها ومواجهة ألمك وتحديات الحياة خارج جدران المكتب، هروب من إحساسك بانعدام ثقتك بنفسك وتقديرك لذاتك، هروب من خوفك ربما، هروب من حياة خاوية وفشل ذريع في اقامة علاقات إيجابية مع من حولك يمكن أن تكون ملاذا وملجأ آمنا من منغصات الحياة، فقررت أن تكون وحيدا بين جدران مكتبك مع إقناع نفسك ومن حولك بكون هذا بطولة وتفانيا من طرفك، لكن ترى إلى متى سيستطيع العمل توفير هذا الملاذ الآمن لك، سيأتي عليك يوم تتقاعد فيه، وستجد أنك في غفلة انشغالك فشلت في تكوين حياة خارج جدران المكتب، وعلاقات العمل ستتوقف بتوقف ممارستك لمهام عملك، وستجد نفسك وحيدا تصارع فراغ التقاعد لأنه لم يكن لديك الوقت الكاف لبناء علاقات صحية تكون لك عونا على السنين، وزوجتك وأطفالك الذين هربت منهم في قوتك ستتحول إلى مصدر إزعاج دائم لهم، وسيبدأون هم ايضا في التذمر من وجودك الدائم الذي لم يعهدوه، قد يكون الوقت لم يتاخر كثيرا للكثيرين منا ممن لجؤوا للعمل هربا من الحياة، وقد تكون الفرصة سانحة اليوم لترتيب الأولويات ومصارحة الذات وإعادة ترتيب الأوراق قبل ان يفوت الأوان، لن أدعوكم ونفسي إلى التوجه لعيادة طب نفسي كما توصي الكاتبة في كتابها الذي اشارت إليه في بداية المقال، لكن ربما يكفي شيء من تفويض الصلاحيات والابتعاد عن السعي نحو الكمال، لأن الكمال لا وجود له حتى في عملك أنت، امنح نفسك إجازة تستحقها بين حين وآخر ولتكن إجازة حقيقية تبتعد فيها عن أجواء العمل وكل ما يتعلق به، وثق بأنك لست المخلص الوحيد للمؤسسة ولست الوحيد الذي تهمه مصلحة العمل، هناك قلوب متفانية كثيرة من حولك تنتظر الفرصة لإثبات الذات والظهور، فلا تحرمها من هذه الفرصة بتعنتك واصرارك ان تكون الكلمة الأولى والأخيرة لك، امنح أطفالك الوقت الذي يستحقون، لأنك وفي غمضة عين ستجدهم وقد كبروا وانطلقوا يمارسمون حياتهم بعيدا عنك، استمتع بوجودهم حولك الان فهذه المرحلة من عمرهم لن تتكرر ابدا، وهي أجمل المراحل على الاطلاق في حياة أطفالك، شاركهم فيها، ليشاركوك شيخوختك وسنوات عجزك، الحياة اقصر بكثير مما نظن، ومن العبث ان نقضيها بين جدران المكاتب وأكوام الأوراق، فالحياة الحقيقية تقع خلف الأسوار وليس بداخلها
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليقان (2):
سلام عليكم..
ساعة يقضيها العبد في عبادة ربه وساعة يقضيها العبد بالنظر في شئون اهله وساعة يسعى فيها لتحصيل رزقه...تفصيل جاء به النبي محمد( النقل بالمعنى) لاجل سعادة الانسان.
للاسف اصبحت سمة حياتنا ام الافراط او التفريط في كل شأن من شئون الحياة..!
الصعوبة في إيجاد توازن ووضع مؤشر يدلل في اي كفة انت وفي اي إتجاة تسير ، واقول صعوبة وليست مستحيل كما يحلو للبعض ان يصور الصعوبة بالمستحيل، ولا ابرى نفسي ..
حتى يإذن الله بقراءة جديد نافع كونوا بخير
التوازن هو السر فعلا أخي علي موسى، لا إفراط ولا تفريط
إرسال تعليق