09‏/12‏/2012

الطريق إلى سانتياغو


انتهيت من قراءة رواية باولو كايللو (الحج) ضمن مجموعة كتب رافقتي خلال الإجازة السنوية، لكن هذا الكتاب بالذات ترك في نفسي أثرا لم تستطع الأسابيع أن تنسينيه، كما تفعل كتب هذا الكاتب عادة فهذه الرواية السادسة التي أقرأها له منذ أن اكتشفت أعماله من خلال روايته الأشهر (الخيميائي)، الرواية موضوع هذا المقال تحكي قصة البطل الذي ينطلق من البرازيل عبر أسبانيا حاجا إلى مدينة سانتياغو باحثا عن سيفه المقدس، يرافقه في هذه الرحلة دليل إيطالي غريب الأطوار، يضعه في مواقف غريبة لا يفهمها ولكنه يطيعه طاعة عمياء تنفيذا لقسم أخذه على نفسه قبل أن يبدأ الرحلة، بعض هذه المواقف جعلته يقف وجها لوجه مع الموت، وكثير من المواقف الطريفة والغريبة والمؤلمة في الوقت ذاته تعرض لها خلال هذه الرحلة، كما تعرض لعدد لا بأس به من الامتحانات والعراقيل التي كادت أن تنهي رحلته وتجبره على العودة من حيث أتى، لكنه يواصل المسير رغما عن كل ما واجهه من تحديات ليصل إلى سيفه، الذي حذره مرشده بأنه لن يتمكن من الوصول إليه قبل أن يعرف هدفه الأساسي من الوصول للسيف، لأن السيف بحد ذاته ليس هدفا، هذه الرحلة تشبه حياة كل منا كما أراها، جميعنا نمضي في هذه الحياة بحثا عن هدف محدد نشعر بأننا مستعدون للتضحية من أجله بكل غال ونفيس، فقط لنكتشف عندما نصل لمبتغانا أن هذا ليس هو ما نريده، أو بالأحرى لم يحقق لنا الوصول للهدف والسعادة والرضا الذي نطمح إليه، سواء كان هذا الهدف منصبا مرموقا أو ثروة مادية أو شهادة عليا، دفعنا ثمنا لها سنوات من الغربة والابتعاد عن الأهل والأولاد الذين تربوا بعيدا عنا، وسنوات طوال من السهر والجهد، كسبنا خلا هذه الرحلة الكثير من العداوات والكثير الكثير من الحساد، وفي النهاية لم يتحقق لنا ما كنا نسعى له، لأننا نسينا أثناء هذه الرحلة أن ندرك أن السعادة ليست هدفا يقع في آخر المشوار وإنما هي الطريق ذاته، نسينا أن نتوقف نشم رائحة الزهور على جانبي الطريق، نسينا أن نستمتع بزرقة السماء وبضحكات أطفالنا، نسينا أن نستمتع بفنجان القهوة الممدود لنا بيد ست الحبايب التي لم نملك الوقت الكافي للاستمتاع بحبها وحنانها وفي غمضة عين نعيت إلينا ولم نتمكن من دفنها لبعد المسافة وأهمية المهمة الموفدين لها، ننسى في خضم مشاغلنا ورسمنا للأهداف أن نسأل السؤال الأهم على الإطلاق: لماذا أريد تحقيق هذا الهدف؟ مالذي سيمنحني إياه تحقيقه؟ من يدري قد تكون هناك طريقة أخرى مختصرة ودرب آخر لم نفكر فيه سيرشدنا لمصدر الأمان أو الثقة بالنفس أو السعادة أو الطمأنينة التي نسعى إليها، لو فقط توقفنا للحظة واستمعنا لصوت الضمير بداخلنا، أمر آخر تعلمه البطل وأجدني أتفق معه تماما فيه وهو أنك إذا ما أردت أن تتعلم شيئا فعليك أن تعلمه للآخرين، عليك أن تضع في اعتبارك بأنك ستشرح هذا الكتاب لشخص ما وأنك ستعلم هذه المهارة للآخرين، بهذه الطريقة ستجد أن المعلومة ثبتت في عقلك للأبد، فقد اكتشف البطل في النهاية أن مرشده لم يكن أكثر دراية منه، وأنه في الحقيقة كان يتعلم من خلال تعليمه له، وما نتعلمه ليس بالضرورة أن يأتي من صديق، على العكس تماما فعدوك كثيرا ما يعلمك أكثر بكثير مما يعلمك إياه صديقك، من يحبك سيداري عنك عيوبك ولن يصارحك بأخطائك خوفا من أن يجرح مشاعرك، في حين أن عدوك سيعرضها لك على الملأ وسيكون الألم الناتج عن الإهانة دافعا قويا لك للتغيير، تكشف لنا الحياة أيضا أن الأمور ليست كما تبدو عليه من بعيد دائما، إذ نتجنب خوض تجربة معينة يمكن أن تصنع فارقا حقيقيا في حياتنا خوفا من المجازفة، لكن ما إن نضع أقدامنا على أول الطريق حتى تتكشف لنا سهولة المشوار ومن الوهلة الأولى، لذا دائما ما نجد المشكلات غاية في التفاهة عندما نتجاوزها وعندما نعود للتفكير فيها، فنشعر بسذاجتنا حينها لأننا استصعبناها، من الأمور المهمة التي تعلمتها شخصيا من قراءتي لما بين السطور أن الحياة ستتكشف لنا بالقدر الذي نحتاجه بالضبط، تماما كما تكشف لنا إضاءة المركبة القدر الذي نحتاجه من الطريق فقط، فأنت عندما تقود سيارتك ليلا من مسقط إلى صلالة لست بحاجة لرؤية الطريق كاملا وإنما يكفيك أن ترى الأمتار القليلة التي تكشفها لك إضاءة المركبة التي كلما تقدمت كلما كشفت لك مزيدا من معالم الطريق، هكذا هي الحياة ستتكشف لك صفحة تلو الأخرى وفي الوقت المناسب فلا تحاول أن تقلق بشأن المستقبل ولا تشغل نفسك بالماضي فكلاهما لا سيطرة لك عليهما، أنت ابن اللحظة فعشها بتفاصيلها!.
 

هناك تعليقان (2):

علي موسى يقول...

سلام عليكم...
مثال المركبة وإضاءتها اثناء قطع الطريق جميل ويدل على قراءة معمقة للرواية وإسقاطها على الواقع. هناك قول مأثور يؤكد هذا المعنى اعمل بما تعلم تكفى ما لا تعلم.
الإشكال يقع عندما نفرط في الطموح إلى درجة تنسينا ما نتمتع بها من نعمة والعكس ايضا خطأ عندما نتهيب من كل ما هو جديد بحجة القناعة وشكرا للنعمة ، فالامر كما اشرت ان نشارك غيرنا بما عندنا لتفتح لنا ابواب فضل جديدة .
حتى قراءة اخرى كونوا بخير

Unknown يقول...

صدقت أخي علي، فالطموح حق مشروع لاشك ومطلوب لإعمار هذا الكوكب لكن عندما ينسينا الاستمتاع بالحياة يصبح سجنا

كن بخير