16‏/12‏/2012

أنا وخالد

تربطني بخالد علاقة وثيقة جدًا أشبه بصداقة من نوع نادر، فهو ملهمي ومعلمي وحبيبي طبعًا، رغم العقود الطويلة التي تفصلنا في العمر، بدأت صداقتي به منذ أن كان رضيعا بدأ يعي ويستطيع الكلام، فخالد هو الطفل الوحيد القادر على إخراج الطفلة بداخلي بدون تكلف، أنسى معه العقود التي تفصلنا من اللحظة التي أصل فيها إلى بيت والدتي ويبادرني ابن أخي الصغير باستعراض كل الأحداث التي حصلت معه خلال الفترة الماضية مما تسمح به ذاكرته الغضة، مترقبًا ردة فعلي التي يعلمها جيدًا، وهي كم من القبل والأحضان وكلمات الإعجاب والتشجيع، التي أحرص على أن يسمعها الكبار الموجودون بقربنا ليشاركوني دهشتي بهذه الإنجازات العظيمة، طبق الطعام سينهيه كاملاً عندما أكون هناك، وسيأتي به اليَّ لالتقاط صورة له بهاتفي النقال لأريها (لأطفال مسقط) الذين لا يصدقون بأنه يستطيع انهاء طعامه كله، وسيأتي بحيواناته ويلقي بها أمامي طالبًا مني مشاركته اللعب، وسينسحب بهدوء عندما يلاحظ أن الكبار بدأوا يشغلونني عنه دون ان يشعرني، وقد يلتهي هو عني عندما يأتي أبناء عمومته، ثم صباح الجمعة سيأتي ويقترب مني ويهمس لي بصوت قلق: هل ستعودين اليوم إلى مسقط، سؤال يعرف الإجابة عليه مسبقًا لكنه سيطرحه على كل حال لعل خططي تتغير، في إحدى المرات سألني عن سبب اضطراري للعودة طالما أن لديَّ غرفة في بيت والدتي خصصوها لي، فكانت إجابتي غير المدروسة سبب في عداوة طويلة بين خالد وزوجي اذ اخبرته ان (أبانا) لا يسمح لنا بالبقاء طويلاً، كتم خالد مشاعره طويلاً، لكن في زيارة لنا لاحظت زوجة أخي أن خالد لم يذهب كعادته للانضمام للرجال في المجلس وإلقاء التحية عليهم، فطلبت منه أن يفعل، تنفيذًا لتعليمات والدته مد يده مصافحًا زوجي ببرود غير معهود من خالد، ثم دار حوله يتفحصه كما يتفحص الصياد فريسته، وعاد لوالدته وباشمئزاز سألها: أهذا رجل أم امرأة؟ ثم قال لها باحتقار: (انه يلبس خاتمًا في يده، وهذا شأن النساء وحدهن)، تطلب منا وقتًا طويلاً لإعادة المياه بين خالد وزوجي إلى مجاريها ونزع فتيل التوتر عند خالد الصغير، لكن بالنسبة لي علمني هذا الموقف درسًا قويًا في مدى تأثير الكلمة، ولعل هذا الموقف كان وراء كتابتي لمقالة (زلة لسان) في هذه الصفحة منذ شهور، معبرة عن خطورة الكلمة منطوقة أو مكتوبة في تغيير حياة أشخاص، رغم أن من قالها لم يفكر حتى فيها، وكيف ان حروبا راح ضحيتها مئات الالاف من البشر كان سببها كلمة قيلت في لحظة غضب أو (زلة لسان)، يذكرني خالد أيضا كل مرة بمدى تأثير التشجيع والاطراء على دفع المرء للإنجاز والاتيان بأمور قد لا نحب حتى القيام بها، وكيف أن التقدير والثناء حاجة إنسانية أساسية مهمًا اختلفت الأعمار والمستويات، أحيانًا كثيرًا نشعر نحن الكبار باننا مستعدون لعمل المستحيل من أجل كلمة إطراء أو تقدير تصدر من رئيسنا في العمل أو شريك حياتنا أو أصدقائنا، وكثير جدًا منا يفضل كلمة تشجيع على حافز مادي رغم أن الكثير من المؤسسات تركز كثيرًا على الحوافز المادية لتشجيع موظفيها على العمل والانتاج، ويفاجأ البعض عندما يلاحظون ان الحوافز المادية لم تأت بنتيجة، إذ اعتقد شخصيًا ان المال محفز ثانوي جدًا، وهو سلاح ذو حدين، إذ قد يعتبره الموظف حقًا مكتسبًا ويطالب به كما يحدث في مؤسساتنا، وبالتالي يتوقف عن كونه محفزًا بعد فترة لأن المرء كلما حصل على المزيد منه أراد المزيد والمزيد حتى يتوقف المال في ان يكون محفزًا، تعلمت من خالد وأقرانه من أبناء إخوتي أيضا أن صلة القرابة لا تضمن لك الحب، وان عليك أن تعمل على كسبه والسعي له، من خلال حبك لهم ومعاملتك معهم، لا يستثنى من ذلك حتى حب الولد لوالديه أو العكس، وما هذه الأعداد المتزايدة من المسنين التي ترقد في مستشفياتنا بعد أن هجرها الأبناء إلا دليلاً على ذلك كما أراها، فلطالما تساءلت إن كان هذا الجحود ناتجًا عن عدم إشباع عاطفة الحب عند هؤلاء الأبناء عندما كانوا بحاجة له صغارًا، بالتالي لم تتعود قلوبهم اصلا على الحب، اذ لا شك أن (من زرع حصد) ولا سبيل آخر للحصول على ما نريد سوى السعي له عاطفة كان أو نجاحًا مهنيًا أو حتى نجاحًا شخصيًا، وبالتالي فمن يزرع الورد سيحصد وردا ومن يزرع الشوك حتمًا لن يحصد سواه، هي قوانين ثابتة لا تتغير، كما علمني خالد وما زال في كل لقاء يجمعني به مؤكدًا مقولة (خذ الحكمة من أفواه الصغار) لو فقط نتوقف لحظة ونمنحهم الفرصة لتعليمنا

هناك تعليقان (2):

علي موسى يقول...

سلام عليكم...
علاقة رائعة تغلب عليها العفوية في التعاطي بين الطرفين، النتائج التي خرجتي بها من هذه التجربة مهمة ومفيدة ، لكن هناك شيئ اخر غير السعي و الارادة في الحصول على هذه النتائج ، هو الاقبال على اي امر بحب ورغبة ،فخالد ليس الولد الوحيد من بين اولاد اخوتك لماذا هو بالذات اصبحت العلاقة مميزة معه؟ انت اقدر على الاجابة.الالفة هي امر مهم في تعاطينا مع من حولنا من ناس وقضايا ترى المريض يألف المرض والفقير يألف فقره طبعاً الالفة والقبولة هنا يقصد بها المشبعة بالامل لا اليأس القنوط..
المعذرة للإطالة الموضوع فعلا جميل بنتائجة. موفقين حتى قراءة اخرى كونوا بخير

Unknown يقول...

ربما لأن خالد لا يراني (العمة) التي يجب أن تحترم و تحب من بعيد لكنه يقترب مني اكثر، أظن أنه هو من كان سببا في هذا التقارب