كنت أتسكع في شوارع المدينة على غير هدى، فكل ما أريد هو الاستمتاع بالمشي المتعة البسيطة جدا غير المتاحة لنا في بلادنا رغم بساطتها ومشروعيتها، لاعتبارات عدة، كنت على وشك عبور الشارع عندما لمحته من بعيد، يصف كتبه على الأرض فاتجهت نحوه، وإذ بي أمام كنز من الكتب القديمة منها والجديدة صفت بعناية على الرصيف بعد أن ضاقت بها رفوف دكانه الصغير، أنزلت حقيبتي وافترشت الأرض اقلب في الكتب كمن وقع عليّ كنز، أدهشني التنوع في الكتب المعروضة وبخس ثمنها الذي لا يكاد يقارن بأسعارها في بلادنا، ربما لكونها مستعملة لست أدري، وجدت الكثير من الكتب التي كنت أبحث عنها والتي كانت في قائمة مشترياتي لفترة طويلة لكن ثمنها الباهظ
ـ إن وجدت ـ حال دون شرائي لها ذلك أنها ليست متوفرة في السلطنة وإنما كان عليّ شراؤها عن طريق الشبكة العنكبوتية مما يجعل كلفة شحنها اكبر من كلفة شرائها، وهذا من الأسباب التي تجعل القراءة على ما أظن عسيرة على غالبية رغم أن شغف القراءة موجود لدى شريحة كبيرة منهم، إضافة إلى أن الجو العام لدينا لا يشجع على القراءة فلا المكتبات متوفرة بكثرة ولا قيمة الكتب في متناول الجميع، في حين أن كل ما في هذه البلاد وغيرها من بلدان أخرى زرتها يدعو ويحفز على القراءة، لأن الكتب معروضة حتى في السوبرماركت وعلى أرصفة الشوارع ومحطات القطارات، والمكتبات العامة ثرية بالكتب المتنوعة في شتى المجالات وتوفر أجواء رائعة ومناسبة للقراءة، إلى جانب أنظمة إعارة سهلة وميسرة، لذا تجد هذه الشعوب مشغولة على الدوام بالقراءة والاطلاع، في كل موقف فيه انتظار تجد الفرد منهم يخرج كتابا من جيب معطفه أو من حقيبته ويسترسل في القراءة، في الحافلات والقطارات الجميع مشغول بالقراءة، في المطاعم والمقاهي وفي أي مكان. كم تمنيت أن يكون هذا متاحا لنا، فالقراءة من المهارات التي نحتاجها بشدة في هذا العصر الذي لو طلب مني وصفه بكلمة واحدة لوصفته بالتغيير، تغيير سريع جدا نحتاج إلى مواكبته بالاطلاع الدائم، كل يوم جديد يأتي لنا باكتشافات جديدة وتطورات مهولة في كافة المجالات، الأمر الذي باتت فيه القراءة والاطلاع ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، خاصة في مجال لأعمال وأيا كانت المهنة التي يمارسها الفرد، ناهيك عن كون القراءة توسع المدارك وتزود المرء بالمهارات الحياتية اللازمة لمواجهة التحديات التي تفرضها الحياة العصرية، لكونها تقدم عصارة فكر الكتاب وتجاربهم الحياتية، يكتبها الكاتب في لحظة انفراد بنفسه ولحظة صفاء، فتأتي التجربة ثرية بالعاطفة والتجربة على حد سواء، اقترب مني صاحب المكتبة وألقى نظرة على الكتب التي اخترتها، وبشيء من الحذر الذي فرضه حجابي في هذه البلدة التي لم تألف منظر امرأة مسلمة بالحجاب إلا قليلا جدا، سألني بحذر أكبر وبلباقة مبالغ فيها من أي البلاد أنا، أجبته بإني من عمان قابوس، وكنت على وشك أن أشرح له موقعها عندما لاحظت إيماءة منه تدل على أنه يعرف مكانها، فشكرت في داخلي (علي الحبسي) الذي لم نعد بسببه في أوروبا بالذات مضطرين إلى إخراج خريطة العالم من جيوبنا لنحدد مكان بلادنا التي نادرا ما يعرفها أحد، بادرني بسؤال أدهشني: امرأة عربية مسلمة ومثقفة؟! نظر مرة أخرى إلى قائمة الكتب التي اخترت أن تفارق النظرة الدهشة وجهه، وددت أن أدافع عن أبناء جلدتي من هذه التهمة المبطنة بأننا شعوب لا تقرأ فيها النساء، وتنبيه بأننا أمة اقرأ، وأن الوحي أول ما نزل على نبينا العظيم نزل عليه آمرا إياه بالقراءة، لكن للأسف الشديد نحن اليوم في زمن العم جوجل والإحصائيات والأرقام التي هي في متناول اليد على الدوام للجميع، وإحصائيات القراءة في أمة اقرأ غير مشجعة على الإطلاق، فإنتاجنا الأدبي شحيح جدا، ودور النشر تكاد تعد على الأصابع، بالتالي الكتب التي تنشر سنويا لا تكاد تـذكر، وهي باهظة الثمن بحيث إنها ليست في متناول الجميع، وخاصة كتب الأطفال التي تباع بأثمان غير طبيعية، وهي السن التي من المفترض أن تنمى هواية القراءة فيها، لكن أسعارها تجعل الوالد يفضل شراء لعبة بربع قيمة الكتاب، خرجت بمجموعة كبيرة من الكتب التي كانت أسعارها منخفضة بشكل لا يمكن مقارنته بأسعارها في بلادنا، بعض منها أهداني إياها صاحب المكتبة عندما لاحظ شغفي بالقراءة، تمنيت فعلا أن يكون لدينا هذا الكم من الكتب، وهذا الاهتمام بالقراءة، وأن تكون الكتب متاحة للجميع، لأن بإمكان القراءة وحدها أن تصنع فارقا في حياة الأفراد وتشجعهم على استغلال أوقاتهم الاستغلال الأمثل عوضا عن إهدار هذه الساعات الطويلة والأموال على المقاهي وأمام شاشات الهواتف.
هناك 5 تعليقات:
"بإمكان القراءة وحدها أن تصنع فارقا في حياة الأفراد وتشجعهم على استغلال أوقاتهم الاستغلال الأمثل عوضا عن إهدار هذه الساعات الطويلة والأموال على المقاهي وأمام شاشات الهواتف"
الأخت حمده الشامسية: الكتب مهما كانت هي وسائط متوافقة للمعرفة وإذا كانت الكتب الإلكترونية توسع من انتشار المعلومات وتتحدى العراقيل والصعوبات فإن الكتاب المطبوع كونه برافقك اين ماكنت وحيث ما حللت،يبقى الأهم،وضعف المقروئية لايعود الى ارتفاع اسعار الكتاب فحسب بل الى المناخ الثقافي،فنمطية التفاعل في وطننا العربي لاتساعد على الإنخراط في مجتمع المعرفة ولاتحبب الثقافة للفرد،ومن شب على شيء شاب عليه.
طرحك قيم جدا
لك تحيتي تقديري.
سيدي الكريم شكرا أولا على القراءة و على مشاركتي الرأي. نعم هناك عدة أسباب تقف بيننا و القراءة و غلاء أسعار الكتب أحد هذه الأسباب كما ذكرت الى جانب الجو العام و شح الانتاج الأدبي المنشور رغم حجم الابداع العربي و ثراؤه
سيدي الكريم شكرا أولا على القراءة و على مشاركتي الرأي. نعم هناك عدة أسباب تقف بيننا و القراءة و غلاء أسعار الكتب أحد هذه الأسباب كما ذكرت الى جانب الجو العام و شح الانتاج الأدبي المنشور رغم حجم الابداع العربي و ثراؤه
سلام عليكم..
القراءة ممكنة جدا خاصة في وضعنا الحالي رغم بعض الصعوبات التى لا يمكن انكارها،إلا ان اول الصعوبات فقدنا الايمان بأهمية القراءة وهتممنا بالكماليات المادية تاركين كل ما هو معنوي ومنها القراءة التي ينبغي الايمان بضرورتها للحياة بدون ذلك تبقى المتع المادية شغلنا الشاغل. المعذر للإطالة لكن الحديث ذو شجون...موفقين
علي موسي
أسعدتني مداخلتك، شكرا لك
إرسال تعليق