14‏/10‏/2012

درس في الولاء الوظيفي

 -
كنت أحضر حفل توزيع جوائز الخدمة الطويلة لموظفي إحدى المجموعات العائلية العمانية، وكانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي أن أعرف أن جميع من تم تكريمهم في تلك الأمسية والذين تجاوز عددهم الستين موظفًا من مختلف الجنسيات، قد قضوا أكثر من ربع قرن من الزمن في العمل لدى المجموعة، أحد هؤلاء وهو عماني الجنسية عمل في المؤسسة منذ ما يزيد عن الخمسة والأربعين عامًا متواصلة، ما الذي يجعل موظف يستمر في العمل لدى صاحب عمل واحد طوال حياته المهنية، لم لم يفكر أي من هؤلاء الموظفين استغلال خبراتهم للانتقال للعمل لدى صاحب عمل آخر لقاء راتب أعلى؟ خاصة وأن عددًا من هؤلاء الموظفين هم من الوافدين، إذ مما لا شك فيه أن الخبرات التي تراكمت لدى هذه الكوادر وفي شتى المجالات خبرات ثرية ولا يستهان بها، لعل الكلمة الترحيبية التي بدأ بها أحد كبار الموظفين، والتي كانت تدور حول تعامل مؤسس المجموعة مع موظفيه وإشعارهم بأنهم أفراد في أسرة واحدة قد أجابت على جزء من التساؤل، وقد شهدت دليلا على ذلك في رجل عماني مسن لم يتمكن من الصعود للمنصة لاستلام جائزته مما دعا مؤسس المجموعة للنزول إليه وتسليمه إياها في مكانه، لا أعرف شخصيًا نوعية العمل الذي يقوم به هذا الشيخ الكبير وهو بالكاد يستطيع المشي، اذ لا بد أن الشركة قد أبقت عليه وفاء له لا أكثر، وقد يكون السبب أيضًا في الاحساس بالشراكة التي ينميها مؤسس المجموعة في العاملين لديه، أو كما وضعها أحد الموظفين الشباب الذي بدأ العمل في المجموعة مؤخرًا على ما يبدو والذي كان يشاركني الطاولة في إجابته على سؤالي عن سبب انضمامه للمجموعة: (الشيك السمين الذي يأتي كمكافأة أداء سنوية، وهو ما لم أحظ به في أي شركة أخرى عملت لديها)، قد تكون المكافآت المالية العالية، وقد يكون الاحساس بالانتماء وقد تكون المعاملة التي يتلقاها الموظف وقد تكون كل هذه الأسباب مجتمعة هي التي تجعل الفرد يتمسك بالعمل لدى مؤسسة دون غيرها، أيًا كانت الأسباب فهي جديرة بالدراسة ذلك أن قضية الولاء الوظيفي باتت تشكل هاجسا بالنسبة للمؤسسات المحلية الحكومية منها أو الخاصة في الاونة الأخيرة، إذ تشير الدراسات -وفقًا لمقال قرأته قبل مدة للدكتور صالح بن سليمان الرشيد- إلى أن 80% من الموظفين في الشركات في منطقة الشرق الأوسط يفتقدون الولاء والإخلاص للشركات التي يعملون بها، مما يشكل تحديًا كبيرًا للمؤسسات في الابقاء على الكوادر الجيدة، إذ ان هذه الكوادر هي التي في العادة تغير مكان عملها، ذلك أن هؤلاء هم أصحاب البدائل والطموحات الذين يرون أن الأفضل لم يأت بعد، لأن ذوي الأداء العادي ومن يشكلون عبئاً على الشركات ويحصلون منها أكثر مما يقدمون يتمسكون بوظائفهم حتى الرمق الأخير، رافعين شعارات "ليس في الإمكان أفضل مما كان"، في حين أن الفئة الأولى-كما يرى كاتب المقال- وهي فئة الموظفين الأكفاء من أصحاب المهارات العالية والذين يضيفون قيمة حقيقية لوظائفهم، هم الذين لديهم استعداد دائم للنمو والتطور والابداع في أداء مهام عملهم، هؤلاء هم الذين يشكلون عبئًا على المؤسسات، وذلك لأن لديهم احتياجات معينة يريدون إشباعها ويرغبون دائماً في أن يكون المقابل قدر العطاء، هؤلاء بحاجة دائماً إلى بيئة عمل ذات مواصفات خاصة تشجعهم على تقديم أفضل ما لديهم، ولعل المؤسسات المحلية قد أدركت ذلك مؤخرا من خلال إيلائها لإدارة الموارد البشرية أهمية، لكن ما زال الجهد لا يرضي الطموح، إذ ان معدل الدوران الوظيفي (انتقال الموظف من مؤسسة إلى أخرى) ما زال مرتفعًا بين أواسط ذوي الكفاءات العالية والتخصصات النادرة، مما يشكل عبئا ماليا وإداريا عاليا على المؤسسات التي مازالت مكتوفة الأيدي أمام صناعة الولاء الوظيفي نظرا لفقدان أجواء العمل الملائمة والتي توفر سياسات موارد بشرية موحدة وواضحة، الأمر الذي يقلل من كثرة النزاعات بين الموظفين ومسؤوليهم أو بين الموظفين وزملائهم، وهو الأمر الذي يستهلك الكثير من وقت الادارة العليا في المؤسسة والتي لا يجد أفرادها متسعا من الوقت للتركيز على المهام الأساسية من تخطيط استراتيجي وتتنظيم وتوجيه، إذ ان وقتهم مهدور في الغالب في حل النزاعات بين الموظفين ومديريهم، حيث تأتي المصالح الشخصية على رأس اهتمامات البعض، مما يؤثر سلبًا على إنتاجية الموظفين وإنتاجية المؤسسات نظرًا لغياب الحماس لدى الموظفين للعمل، وإذا ما ساد الولاء الوظيفي وفقا لذات المقال في المؤسسة فإن ذلك كفيل بتحويلها إلى مؤسسة منتجة، متكاتفة، يسودها روح الابداع والفريق الواحد، مؤسسة مستقرة بلا نزاعات، وقادرة على المنافسة وتمتلك فرصا ثمينة للتميز والتفرد، وهي بالتالي مؤسسة جاذبة للكفاءات البشرية محفزة للموظفين، الذين يتمسكون بوظائفهم لديها مهما كانت المغريات، وتتطلب صناعة الولاء اهتماما بالموظفين واحتياجاتهم كما ذكرنا، على اعتبارهم المورد الأهم في المؤسسة، ومعاملتهم كشركاء من خلال إشراكهم في عملية اتخاذ القرارات والتعرف على انطباعاتهم ومقترحاتهم، بحيث يتم تجنب سياسة فرض النظم والقرارات والتنفيذ بالأمر، والشراكة تعني أيضاً أن الموظفين يجب أن يشعروا بأنهم يتقدمون كما تتقدم الشركة، فهم يحصلون على عائد أكبر، ويرتقون سلم الوظيفة بخطى ثابتة توازي الجهد الذي يبذلونه في المؤسسة، وتلعب مهارات الاتصال الفعال بين كافة المستويات الادارية في المؤسسة عاملاً مهمًا في بناء الولاء الوظيفي، حين تختفي أجواء الشائعات والكلام المنقول وشعور الموظف بأن هناك أسرارًا لا يعرفها، والأبواب المغلقة والحواجز الوهمية بين المدير والموظف لتحل محلها أجواء جديدة تتغذى على الاتصالات المفتوحة بين الإدارة وبين الموظفين، حيث الباب المفتوح الذي يسمح بمرور المعلومة أو التوجيه أو الاقتراح أو المشكلة أو الانطباع بكل سهولة ويسر بين المدير والموظف، كذلك إعطاء الموظف الصلاحيات والأدوات التي تمكنه من أداء المطلوب منه على أكمل وجه وهنا يشعر الموظف بالاستقلالية ويشعر بتقدير الإدارة للمهام التي ينهض بها في العمل.

ليست هناك تعليقات: