30‏/09‏/2012

عيش وسمك

استوقفتني قهقهات الصغار عن الاستمرار في الأكل فرفعت رأسي عن صينية (العيش) لأرى العيون تحدق في بدهشة واستغراب، ولم يتمكنوا من كتم ضحكاتهم أمام هذا المشهد وهم ينظرون إلي منهمكة وفي غاية الانسجام مع قطعة السمك التي وضعت امامي، تجاهلت التعليقات والنظرات وعدت للصينية وكمن وقع على تحفة فنية نادرة بدأت أتأمل تلك القطعة وأشم عبيرها كمن يشم حفنة ورد، هز أحد الكبار راسه متعجبا وهو يراني أتلذذ بالطعام الذي وضع أمامي: من يراك يظن بأنك لم تري الطعام منذ شهر، بالله عليك ما المذهل في صحن عيش أبيض وقطعة سمك؟! اكملت المهمة التي أمامي غير عابهة بنظرات الاستغراب من الكبار قبل الصغار، الوجبة كانت بسيطة للغاية فعلا مكونه من (عيش شيلاني) برشة (سمن عماني) و(سمك كنعد) وبعض الفجل والجرجير والى جانبه صحن تمر، لكن الوجبة أعدت بعناية ولمة الأهل زادت من الاحساس بالمتعة في تلك اللحظة، بعد الغداء دار نقاش طويل حول عشقي للطعام وكيف أنني اتصرف دائما وكأنني (ماشايفه خير) امام ابسط الأمور، وهي حقيقة لا استطيع ان انكرها، فأنا بالفعل مسكونة بالدهشة على الدوام، املك روح طفل في الثالثة وفضوله، ابسط الأمور يمكن أن تثيرني، واجد متعتي في أبسط الأشياء ايضا، وأحسب هذا ميزة ونعمة من أجمل نعم المولى علي لكونها السبب الذي يقف وراء إحساسي الدائم بالرضا والسعادة، خاصة الطعام الذي هو عشقي الأول بلا منازع- اعتذاري لزوجي العزيز- وكثيرا ما أقنعت المقربين مني بتجربة طعام لم يتخيلوا يوما أنهم من الممكن أن يتناولوه من مجرد وصفي له امامهم، تحول بعض زملائي لشرب القهوة التي كانوا لا يستسيغونها مطلقا من وصفي لفنجان قهوتي الصباحي الذي ابدأ به يومي، إلى جانب الطعام تسحرني الطبيعة كثيرا ويمكنني ان انسى نفسي امام مشهد لغروب الشمس ببساطة، اذكر بأنني اثناء دراستي للماجستير في استراليا كنت اصطحب الطالبات العمانيات في جولات اسبوعية في ضواحي ولاية فكتوريا، في إحدى هذه الزيارات ذهبت بهن لزيارة الحديقة الطبيعية في ملبورن، كانت الحديقة هي الأجمل على الاطلاق من بين كل الحدائق التي زرت، تحتوي على اشجار نادرة جدا ومنوعة بشكل كبير، كل شجرة من تلك الأشجار تحفة فنية ومعجزة ربانية، تجبرك ان تسجد امامها اعجابا وانبهارا بقدرة خالقها، بدا من تنوع الأغصان إلى الاختلاف المثير في اشكال الأوراق و تباين ألوانها، فكنت اتسمر أمام كل شجرة كالمسحورة في حين تمر بها زميلاتي مرور الكرام وهن مشغولات عنها بحوارات ونقاشات في امور دنيوية بعيدة كل البعد عن جو تلك المخلوقات التي كانت تحيط بنا، هذا رغم أن البعض منهن كانت تلك تجربتهن الأولى مع السفر، في حين كنت قد عبرت القارات من أمريكا مرورا بأوروبا وآسيا حتى وصلت إلى استراليا، ذلك اليوم أدركت إلى اي مدى أنا محظوظة لكون الخالق قد وهبني عينا متذوقة للجمال إلى هذا الحد، ومن علي بهذا الفضول، الذي يضاعف إحساسي بجمال الأمور من حولي، وأشفق فعلا أحيانا على البعض ممن حباهم الله بنعم لا تعد ولا تحصى لكنهم يعيشون حالة من الكآبة والشكوى والتذمر بسبب تركيزهم على السلبيات في حياتهم أو النواقص، وتجد البعض قد علق سعادته أملا في تحقيق أمنية بعيدة وهدف مستقبلي، وشعر بأن سعادته وحياته لا تكتمل إلا بتحقيق تلك الأمنية سواء كانت زوجا أو منزلا أو شهادة، أمر واحد فقط ناقص يغطي على الاف النعم الأخرى، وأشياء رائعة صغيرة تحيط بنا لو أدركناها كانت ممكن أن تضيف وحدها البهجة على حياتنا، فالجمال يكمن في التفاصيل الصغيرة في الحياة من لقمة نظيفة دافئة نأكلها بعد جوع، إلى ضحكة طفل ومنظر طبيعي خلاب، نمر عليها مرور الكرام ولا تستوقفنا، إلى رواية جميلة أو معزوفة موسيقية، لا أنسى مطلقا نصيحة قالها لي مسؤولي المباشر يوما وقد جئت إلى العمل في مزاج سيء لم استطع على ما يبدو أن اخفيه، فقد نصحني حينها وكنا في شهر أغسطس، بأن أتأمل للحظة كوب الماء البارد قبل أن أشربه، وأتلمسه لبرهة من الزمن، ثم عندما أهم بالرشفة الأولى اتمهل أيضا وأتخيل فقط لو ان ذلك الكوب لم يكن موجودا، وأفكر للحظة في ملايين البشر الذين لا تتاح لهم هذه الشربة، فكانت نصيحة غيرت حياتي بشكل لم أحلم به على الاطلاق، فمنها تعلمت أن استمتع بالأشياء الصغيرة في الحياة، التي هي في الحقيقة عماد هذه الحياة لكننا نتناساها، كشربة الماء هذه، أحيانا كثيرة لسنا في حاجة للوظيفة المرموقة أو الحساب البنكي الضخم لنشعر بالسعادة، رغم انني شخصيا أتوق لها كثيرا، واحلم بها على الدوام، لكن ليس للحد الذي ينسيني ان استمتع بوظيفتي الحالية وبحسابي المصرفي الذي اصبح افضل مما كان عليه قبل سنوات عدة، فهذه الزيادات البسيطة يمكن لها ان تكون مصدر بهجة متواصلة على امل الوصول إلى ما هو أكبر منها، فقط استمتع بقطعة السمك هذه، وبشربة الماء البارد اليوم و لا باس من ان تنظر بعين الأمل للكافيار والسيارة الفارهة، فقط لا تدع تلك الأمنيات تفسد عليك متعة اللحظة!


هناك تعليق واحد:

علي موسى يقول...

سلام عليكم...
القناعة كنز لا يفتى...للاسف اكثر معانتنا في الحياة هي رغبتنا بالكثرة متناسين بأن بالقلة تكون الكثرة،لو احصينا الاشياء التي نراها تافهة لو فترضنا فقدها كم ستكون هذه التوافه ممهم جداً لا تعادلها كثرة المال .وجهة التركيز هي من تحدد حقيقة ما ننعم به...
حتى قراءة اخرى كونوا مستمتعين بكل نعمة