كان علي الذهاب لإنهاء معاملة كانت تتطلب حضوري الشخصي، خرجت
من العمل متثاقلة فأنا للأمانة لا أحب التردد على المؤسسات الخدمية لكوني لا أطيق
الانتظار الطويل، لهذا أخذت معي مجموعة من المجلات التي وصلتني للتو لقراءتها أثناء
فترة الانتظار التي توقعت أن تكون طويلة، وعقدت العزم قبل خروجي ألا أسمح لشيء أن
يثير أعصابي، وقررت أيضا عدم الشعور بالملل مهما طالت فترة الانتظار، وصلت المكان
ووقفت كتلميذة صغيرة غير قادرة على التصرف أمام هذا الحشد الهائل من البشر الذي كان
يملأ الأروقة والصالات، وقفت أنتظر لأرى كيف سيتصرف الأشخاص قبلي فهذه المرة الأولى
التي أزور فيها المكان، جاء حارس أمن وأعطى كلا منا رقما من آلة صرف الأرقام التي
وضعت لسبب أجهله داخل الإستقبال أي أن عليك انتظار الموظف ليستخرج لك الرقم، سلمني
الموظف الرقم مع استمارة طلب مني تعبئتها، ولكون التعليمات لم تكن واضحة أو بمعنى
آخر لم يعطني أية تعليمات سوى أن اتجه لغرفة انتظار النساء - وهو ما فعلته - قمت
بتعبئة الاستمارة والانتظار الذي كان طويلا، كادت محاولات البقاء هادئة الأعصاب أن
تفشل، لولا أنني كنت قد أنهيت اليوم السابق دورة في البرمجة اللغوية العصبية ما زال
تأثيرها قويا عليّ، مرت الدقائق طويلة لم يظهر رقمي رغم أن أرقاما بعده بكثير ظهرت
على الشاشة، مما أدركت معه أن خطأ قد حدث - هذا لأني برمجت نفسي على عدم إساءة الظن
بالآخرين - فعدت للموظف الذي زجرني لكوني تركت الاستمارة عندي ولم أسلمها له لهذا
فات دوري، - كيف لي أن أعرف ذلك؟!- أشار عليّ بالصعود للطابق الثاني وكان معي
مجموعة من المراجعين حدث منهم الخطأ ذاته على ما يبدو، لكنهم لم يتبرمجوا على عدم
الغضب فثارت ثائرتهم، وكنت أستطيع أن أشعر بغليان المشاعر السلبية داخلهم، ذلك أن
الطاقة السلبية كانت منتشرة بكثافة في المكان لا يمكن لأحد أن لا يلحظها، فجأة وأنا
أقترب من نهاية الدرج، تغيرت الطاقة كلية وشعرت بشيء من الانفراج في أعصابي، أدركت
سره وأنا ارفع عيني فإذا بشاب عماني يافع تملأ ابتسامته المكان، بادرنا بابتسامة
عريضة وحيا الجميع بمرح، وهدأ من روع المراجعين ووعد بأن ينجز معاملاتهم بأسرع وقت،
سحب الأوراق من ايدينا أشار لكل واحد أن يجلس أمام طاولة طباع بعينه أعطى تعليمات
للطباعين بذات الأسلوب، ثم فجأة اختفى في غرفة مجاورة ينهي معاملات مجموعة أخرى ثم
انتقل إلى غرفة اخرى لإنجاز مرحلة أخرى من المعاملات، كل هذا بحركات جذلى ونشاط
غريب وابتسامة لم تفارق وجهه لدقيقة، كنت أراقبه وهو يمزح مع هذا ويضحك مع ذاك في
ذات اللحظة التي يراجع فيها المعاملات ويعطي التعليمات دون كلل أو ملل، وأنا غير
مستوعبة للموقف، إلهي من أين لهذا الرجل بكل هذه الإيجابية في بيئة عمل كهذه وهو
محاط بكل هذه الشحنات السلبية من المشاعر، كيف يتصدى لهذه الذبذبات السلبية القوية
التي تشعر بها ما أن تدخل المكان؟! من أين يأتي بكل هذا الرضا وهذا الحب لعمله وهذا
التفاني في هذه الأجواء، أقارن بينه وبين الكثيرين ممن أعرفهم ممن يعملون في مكاتب
واسعة ومريحة، وبحوافز أجزم أنها تتجاوز راتب هذا الموظف بكثير، ومهام وظيفية سهلة
ومريحة ليس مضطرا أن ينجزها تحت هذه الضغوطات، ورغم هذا تجده شاكيا باكيا متذمرا
على الدوام، فالمكتب ليس واسعا بما يكفي، والحوافز الكبيرة نأى إلى علمه بأن مؤسسة
من المؤسسات تعطي أكثر منها، و الدورة التدريبية جاءته في دبي في حين زملاؤه أوفدوا
إلى ماليزيا أو تركيا، و المكافأة صرفت على أساس راتب أساسي واحد في حين أن زميلا
آخر في دائرة أخرى حصل على راتب ونصف، وهي أسباب تدعو للكآبة وتستدعي محاسبة
الإدارة الظالمة، وسيصب كل هذا الغضب طبعا على المراجع المسكين الذي طحنته الحياة
قبل أن يأتي، والذي قطع مئات الكيلومترات من ولايته لينجز معاملته في يوم لكونه لا
يملك المال لتكاليف المبيت في مسقط، وحتى في حالة مراجع مثلي لم يذهب مضطرا، لا
أتوقع من مقدم الخدمة أيا كان إلا أن يخدمني بغض النظر عن حصوله على برنامج تدريبي
خارجي من عدمه لأن هذا ليس شأني ولا ذنب لي فيه، ناهيك عن إحساسي بالشفقة تجاه هذه
الفئة من الموظفين الذين يبحثون عن أسباب لعدم الرضا مهما كانت ظروف عملهم مريحة
ومحفزة، أشعر فعلا شخصيا بأن الوظيفة سجن انفرادي مؤبد لمن يؤديها بهذا الأسلوب،
ولا شك أن موظفا كالذي قابلته ذلك الصباح يعيش حالة من الرضا عن نفسه ووظيفته،
بالنسبة لي ذلك اليوم نسيت معاناة الانتظار، وشعرت بالرضا، وشكرت ذلك الموظف من
صميم قلبي، ودعوت له في ظهر الغيب – وما زلت كلما تذكرته - كثر الله من أمثاله في
دوائرنا الخدمية و في أي مكان له علاقة بخدمة مراجع رحمة ورأفة بهؤلاء المراجعين
هناك تعليقان (2):
سلام عليكم ..
دماثة الخلق ونبل العمل كسلوك للشخصية، يحتاج توفيق من الله ولا يتأتى الا بالعمل وبإخلاص، فالانسان متى ما عود نفسه على عادة ما مع الوقت تصبح هذه العادة ملكة خاصة وبالذات في تهذيب النفس، لهذا حيثنا الدين على تكرار بعض الاعمال والاوارد لتطويع النفس .
حتى قراءة اخرى نافعة بأذن الله كونوا بخير
وفقنا و إياك أن نكون من ذوي الخلق الحسن أخي علي...كن بخير
إرسال تعليق