قبل سنوات هاتفني زميل عمل كان يعبر (السنينة) في طريقه للبريمي قادما من الشرقية، وقال لي بصوت فيه من الدهشة والاستنكار والحيرة ما فيه: ولاية (السنينة) هي القرية التي تقع بين (ضنك) و(حفيت) هل هذا صحيح؟ لم يتح لي مجالا للإجابة فبدأ بوصفها ليثبت لنفسه قبل أن يثبت لي بأنه لم يكن مخطئا في المكان، لكنني أكدت له أنها هي بكل تأكيد، حينها قال لي: حرام عليك يا امرأة، لقد جعلتني أرسم لها من خلال كتاباتك وحديثك عنها صورة تكاد تقترب من صورة (فيينا)، توقعت أن أجد واحة غناء لا شبيه ولا مثيل لها في عمان كلها، وإذ بي أمام صحراء قاحلة لا حياة فيها!! حينها جاء دوري أنا لطرح الأسئلة للتأكد من أنه لم يخطئ في المكان، لكنه صدمني بكونه قد وصف لي المكان بدقة متناهية، ليتأكد لي أننا نتحدث عن المكان ذاته وإن اختلفت المشاهد، ما كان يراه صحراء قاحلة كان مشهدا حقيقيا يراه أمامه، بدون مبالغة أو محاولة لتشويه الصورة، هذا كان ما تنقل له عيناه، لكن الصورة بالنسبة لي كانت مختلفة تماما، أنا لم أر في مسقط رأسي سوى واحة غناء، وبقعة من أجمل بقاع الأرض، ذلك الموقف علمني درسا قويا فيما بعد في إدارة الحوار، وتقبل وجهة النظر الأخرى، ذلك أنني كنت دائما أتذكر هذا الموقف، وأحدث نفسي بأن محدثي يرى الصورة من زاوية مختلفة تماما ليس إلا، لذا فإن أي محاولة مني لتغيير قناعاته وإجباره على رؤية الصورة من حيث أقف لن تأتي بنتيجة، فتعلمت أن أتقبل وجهة النظر الأخرى، أو بالأحرى عدم محاولة نقضها وإجبار الطرف الآخر على التخلي عنها، فهو يرى السنينة (صحراء قاحلة) فيما أراها (واحة غناء) لأن كلا منا يرى بعينه ومن الزاوية التي يقف فيها، نرى الأمور أيضا ليس بعيوننا وحدها بل ببصيرتنا ونفسرها وفقا لخبراتنا ومعتقداتنا السابقة، الأمر ذاته مع مقالاتي التي اكتشفت أن القارئ لا يصله دائما المعنى الذي أريد، فكل منكم سيقرأ المقال برؤيته الخاصة، حتى إنني اشك أحيانا عندما تصلني تعليقات بعضكم إن كنت أنا المقصودة بذلك النقد، أشك أن يكون القارئ يتحدث عن مقالتي أنا، البعض سيكتفي بالعنوان وسيعتقد أنه فهم ما أرمي إليه، والبعض سيلفت انتباهه جملة كتبتها في وسط المقال وسيركز عليها دون سواها، حتى من يقرأ المقال كاملا لن يفهم منه ما أردت أنا إيصاله، ستكون له قراءته المستقلة عني، فتعلمت أن رأي الناس فيّ يجب ألا يعنيني لأن لا علاقة لي بما يرون، بعد أن تكشفت لي الحقيقية التالية وهو انه حتى هذه اللحظة لم يتفق اثنان على حقيقتي، هناك من يبالغ في تصوير مثاليتي، هناك من يراني امرأة قوية للغاية، وهناك من يصفني بالضعف، يرى الكثيرون أنني مقلة في كلامي درجة الملل، في حين يرى آخرون بأنني كثيرة الكلام، وهؤلاء ليسوا غرباء بل هم اقرب الناس لي، هناك من سيحبني، وهناك من سيكرهني، البعض قد أعجبه والبعض الآخر سينفر مني، رغم كوني الشخص ذاته لم أتغير إلا بقدر ما تغيرت عين الرائي، فالمدهش انه حتى اليوم ما زال أفراد أسرتي يكتشفون جوانب في شخصيتي لم يعرفوها عني، تمنيت فقط لو أنني عرفت هذه الحقيقة باكرا، كانت حياتي ستتغير كثيرا، وكنت سأوفر على ذاتي الكثير من الألم والمعاناة أكتشف اليوم انه لم يكن لها داع على الإطلاق، ان الكثير من الكلام والنقد الذي اعتقدت انه كان موجها لي، كان في الحقيقة موجها لمن ظن قائله انه أنا، ففي النهاية لا أحد يعرفني حقا، ولا احد يراني حقا، أو كما تقول المقولة المتداولة في علم النفس والتي باتت تعرف بقاعدة 20/40/60 أنه في العشرين نعتقد أننا مركز العالم، فنتصرف بحماقة محاولين لفت الانتباه لنا ظنا أن الناس تلاحظ كل حركاتنا وتصرفاتنا، في الأربعين لا نهتم كثيرا برأي الآخرين فينا، فنبالغ في ممارسة الحماقات، في الستين ندرك الحقيقة المرة وهي أن العالم لم يكن أبدًا معنيا بنا، فالجميع كانوا مشغولين بهمومهم عنا! الهي كم فرصة سعادة وكم لحظة ممتعة وكم قلب محب اغلقنا دونها الأبواب حماقة منا وجهلا! ليتنا أدركنا هذه الحقيقة في العشرين لعشنا مرحلة الستين حينها، ولما ظلت الكثير من مواهبنا مدفونة، ولما خنقنا الكثير أيضا من أمنياتنا وأحلامنا الجميلة التي كان ممكنا أن تجعل من حياتنا أكثر متعة وإثارة وسعادة مما كانت عليه، فقد ضاع العمر بنا (خائفين) مما سيقوله إنسان لم يعلم أصلا بوجودنا، كان هو ذاته مشغولا طوال تلك السنين بعيوبه ومآسيه، ومشغولا بما ظن أننا سنقوله فيه، وكل منا بالكاد يتذكر الآخر إلا إذا جمعنا به مكان واحد، وما أن نغادر سنتلاشى في الذاكرة، ولن يعد لنا وجود، تحضرني عبارة رائعة أظنها للأديب الأمريكي مارك توين إن لم اكن مخطئة مفادها أن أغنى الأماكن بالكنوز ليست هي المناجم وإنما المقابر التي ملئت بأفكار خلاقة ومواهب وإبداعات دفنت مع أصحابها لأنهم لم يجرأوا على إخراجها خوفا من النقد
هناك تعليق واحد:
سلام عليكم..
كن مخلص لله واعمل بما تعلم تكفى ما لا تعلم...لان رضا الناس غاية لا تدرك...طرح موفق
إرسال تعليق