عندما كنت مراهقة صغيرة سمعت عزيزة جلال تغني (ليالي الأنس في فينا) – لم
أسمعها بصوت أسمهان إلا بعد فترة طويلة- تخيلتها أرض رائعة الجمال، و تخيلت كيف
سيكون شعوري لو زرتها، فقد كنت فتاة حالمة جدا في طفولتي – وإلى الآن- ساهم هوسي
بالكتب في إثراء هذا الخيال بشكل كبير، لم أكن أمر على الكلمات سريعا كما يفعل
البعض، فقد كنت أتخيل الصورة بكل تفاصيلها، عندما أقرأ عن البحر يسبح بي خيالي
بعيدا و أتصور كيف يكون، أتصور زرقته و أتخيل نفسي أقف أمام ذلك العملاق المهيب،
فتشعرني الصورة بالرهبة و الفضول، كذا عندما أقرأ عن الأنهار و البحيرات، و السفن،
و الغابات، كان مجرد التفكير في تحقيق تلك الأحلام ضربا من الجنون، لفتاة بدوية
ولدت في خيمة شعر في الستينات، لكن عقلي الصغير لم يعترف يوما – وما زال- بكلمة
مستحيل، و قد أثبتت لي الأيام صدق ذلك، بعد أن تحولت أحلامي إلى حقيقة فاقت كل توقعاتي،
شاهدت البحر، و النهر و البحيرات بكل أشكالها و الأوانها و في كل قارات العالم –
باستثناء أفريقيا و أمريكا الجنوبية – شاهدت مئات المخلوقات التي كنت اقرأ عنها، و
زرت معظم معالم المدن، ومازلت – تلك الطفلة التي تأبى أن تكبر – بفضولي الذي يكبر
معي باكتشاف الجديد كل يوم..
لهذا عندما جاءت الفرصة لزيارة النمسا، لم أكذب خبرا، استعديت للرحلة قبلها
باشهر و حزمت حقائبي قبل السفر بأسابيع
عندما وصلنا الفندق و وضعنا أمتعتنا في الغرف، اقترح رفاقي الاستفسار من
استقبال الفندق عن مكان نتعشى فيه، اقترحت عليهم شارعا قريبا من الفندق الذي نقطن
فيه توجد به عدد من المحلات التجارية و المطاعم، حيث سنتمكن من شراء بطاقات
لهواتفنا ومن ثم تناول عشائنا في إحدى المقاهي الواقعة على الشارع، نظر أفراد
الفريق لبعضهم بشك، متسائلين كيف عرفت ذلك وهذه هي زيارتي الأولى لفينا، لم يعرف
رفاقي بأنني قضيت اسبوع كامل اتصفح موقعي المفضل – المسافرون العرب- أخذت برنامج
سياحي متكامل من موضوع أحد الأعضاء، مع خارطة للنسما، و خارطة الميترو و أخذت فكرة
عن اسعار تذاكر القطار، و رسوم دخول المتاحف......الخ
بالتالي عندما وصلت كانت لدي فكرة تامة عما أريد، وهكذا أقنعت البقية بأن
يتبعوني، وفعلا بعد عدة أمتار وجدنا شارعا تجاريا تمشينا فيه قليلا، و تبضعنا بعض
الأغراض للثلاجة، و اشترينا بطاقات هاتف هاتفنا أسرنا من خلالها، ووجدنا مقهى يبيع
البيتزا وكان العمال فيه من أصول عربية، طبعا حلفوا علينا بأن اللحوم حلال، لكني بالأمانة
لم أصدقهم – لا أثق بالعرب كثيرا في الخارج بشكل عام – لكن بالنسبة لي لم يكن في
الأمر مشكلة لأنني آكل اللحوم في بلاد اليهود و النصارى، أحاول الا أصعبها على
نفسي وهي سهله، لكن رفاقي كانوا ملتزمين قليلا، و بالتالي كان علينا الاكتفاء
بالبيتزا و الفلافل على مدى يومين من وصولنا، إلى أن تعبت من بيتزا التونة و
السبانخ، و دار راسي على صحن عيش، لذا فقد استأذنت من الرفاق بالبحث عن مطعم قريب
من محل البيتزا الذي كنا نتناول غدائنا فيه، ومن حسن حظي أنني عثرت على مطعم هندي
على بعد خطوات فقط من الشارع الذي كنا فيه، و هكذا سنحت لي الفرصة بتجربة ألذ صحن
برياني مع سلطة الروب، شعرت وكأنني اكتشفت الجنة...
عند العودة للفندق هم رفاقي بحجز جولة سياحية لليوم التالي عن طريق الفندق،
لكني كنت قد جهزت برنامجا كاملا نعتمد فيه على استخدام الميترو في فينا، و الجولة
السياحية الوحيدة التي خططت لها كانت لمدينة سالزبورغ، وهكذا اقترحت عليهم أخذ
القطار من المحطة القريبة من الفندق و ننزل في ساحة ستيفانز حيث الكثير من المحلات
و العروض الفنية، على الرغم من أن البعض كان مشككا في حقيقة معرفتي بالمدينة فلم
يرى أيا منهم محطة قطار أمام الفندق، لكني كنت قد قرأت عنها في المنتدى وهكذا
عندما ذهبنا للتمشي كنت أتجول ببصري مثل بومه حتى تأكت من وجودها و حفظت المكان ولم
أخبر أحد بذلك- عشان اتفشخر عليهم بعدين- ، اشرت عليهم بأن يتبعوني و كفى، لذا عندما
وجدوا أنفسهم في محطة الميترو ذهلوا، وهكذا نصحتهم بقطع تذكرة أسبوعية لأنها أوفر
و لكوننا سنستخم الميترو في كل تنقلاتنا في النمسا، و فعلا اكتشفت بأن الميترو من
أسهل وأفضل خطوط الميترو في العالم، كنا
كل يوم ننزل محطة و نتجول في المعالم المحيطة بها، ذلك أن هناك محطة عند كل ساحة مهمة
في فينا، فقصر الشانبرون قريب جدا من المحطة التي تحمل اسمه، وهو من معالم فينا
الشهيرة، و أهم ما يميزه حديقته الجميلة التي تضم حديقة مصغرة للحيوانات و يتكون
من 8 أقسام لذا فقد لا يكفي يوم واحد لزيارته، و قد استهواني القصر كثيرا على الرغم
من أن الكثيرون يقولون بأن قصور أوروبا متشابهه لكنني شخصيا لا أتفق مع ذلك، و
تستهويني العمارة بشكل عام، أحب التجول في المباني العريقة، و خلق قصصي الخاصة من
مخيلتي لكل غرفة فيها...
ولعل أجمل ذكرياتي كانت في متحف التاريخ الطبيعي، خاصة قسم الصخور، الذي
أطلق بالفعل الطفلة بداخلي، و كنت أقف مذهولة أمام كل صخرة فيه، لم أكن أعرف حتى
تلك اللحظة أن عالم الصخور ثري و متنوع إلى هذا الحد، مئات من الصور ذات الأشكال
المتعدة، و الألوان المذهلة، و الأحجام المختلفة، البعض منها كريم و الآخر أقل
كرما، و ما أذهلني فعلا وجود مجموعة صخور جلبت من وديان عمان، قضيت ساعتين تقريبا
فقط في هذا الجانب، سحر ما في تلك الصخور كان يشدني إليها، و يجبرني على الوقوف
أمامها في حالة من الدهشة..
في ذات المتحف يوجد قسم كبير للآثار الفرعونية التي جلبت – سلبت- أو هربت-
من موطنها الأصلي، تفاجأت جدا من شعوري و أنا أدخل هذا الجناح، لسبب لا أفهمه شعرت
بالغصة، بالخيانة، شعرت و كأن أحدهم قد سلبها مني أنا شخصيا، و شعرت بالغضب أيضا
على من سولت له نفسه بيع تراث بلده...
أيضا الصعود لبرج الدانوب و رؤية فينا منه، منظر خرافي حقا، أما الرحلة
البحرية عبر نهر الدانوب الشهير فقد كان حلما طالما راودني، وأكاد أجزم أن أسمهان
أو من كتب لها الأغنية كان في إحدى هذه البويتات الجميلة الواقعة على ضفتي النهر،
و التي يتنافس أصحابها بتزينها بأجمل الزهور التي جعلت من المكان و كأنه قطعة من
الجنة فعلا، مشهدا لن نساه طوال حياتي بكل تأكيد، فهو من أجمل المشاهد التي مرت
علي في حياتي – طبعا أنا أقول ذلك عن كل مشهد يمر بي- قد تذكرون بأنني قلت الشيء ذاته عن وادي الخوض،
فلا تشغلوا بالكم بالتعابير هذه، فما زالت البدوية اللي ما شايفه غير السيوح تسكن باخلي.
ما يجعل النمسا بلدا يستحق الزيارة إلى جانب جمال البلاد، هو دماثة خلق
الشعب النمساوي، و حسن معاملتهم للسياح، إلى جانب سهولة التنقل فيها، و كثرة
المعالم السياحية، وهكذا و بعد أن انتهينا من زيارة معظم معالم فينا، حجزنا لرحلة
عن طريق الفندق لسالزبورغ، وكانت كما ذكرت هي الرحلة الوحيدة التي أخذناها بدون
استخدام الميترو، والذي وفر علينا الكثير من المصاريف، ذلك أنه في السفر تذهب أكثر
المصروفات على وسائل الانتقال و الجولات السياحية..
هذه الجولة كانت عن طريق الباص مما أتاح لنا الاستمتاع بأجمل المناظر
الطبيعية على الاطلاق في الطريق، وعلى الرغم من أن سالسبرغ مدينة جميلة جدا، إلا
أن أكثر ما استمتعت به هو الطريق..
لم أقابل شخصا زار فينا ولم يعجب بها، فهي مدينة ساحرة فعلا، شعبها مضياف
وخدوم، و شعب راق فعلا
هناك 4 تعليقات:
ما مررت به عزيزتى حمده مررت به
فعلا ليالى الانس فى فيينا بلاد الرقه والجمال والاحساس الفنى الرفيع ولا زلت اذكر وانا اتناول طعامى فى احدى الفنادق المتواضعه الا واجد خلفى اثنين من العازفين على الكمان .......
اعذرى مقاطعتى فاليوم يوم الجمعه وحل موعد صلاة الجماعة
ولكن لى معك زيارة اخرى قريبه يا كاتبتى العزيزة بس حضرى فنجان القهوه الساخن
الفاروق
جمعة مباركة طيبة سيدي الفاضل
سلام عليكم..
الدرسة والتخطيط قبل الشروع في اي عمل كان ، يضمن نسبة نجاح عالية طبعاً مع الدراسة والتخطيط السليم وبالعكس يكون الفشل ،فحفظ الوقت والجهد والامكانيات لا يكون إلا بذلك .
اللافت في الموضوع عدم ثقتك بالعرب بالخارج ، وأكلك اللحوم في بلاد اليهود والنصارى حسب تعبيرك !!
بحكم تغربك الطويل كيف نفهم هذه المفارقة بين تربيتك المحافظة حسب ما يفهم من كتاباتكم وهذا الانطباع والتصرف ؟
حتي يإذن الله بسياحة اخرى نافعة كونوا بخير.
(و طعام أهل الكتاب حل لكم)
إرسال تعليق