أستيقظت كعادتي على صوت صراخ جاري العجوز ، أمر كان يزعجني في البداية،
لكن على ما يبدو ألفت الأمر لدرجة أنني إذا اختفى هذا الصراخ يوما أرسل شغالتي على
الفور إلى بيته للإطمئنان عليه، فهو يقطن مع شغالة من جنسية شغالتي، تقوم على
رعايته، فهو على ما يبدو شأنه شأن الكثيرين من عجائزنا عنيد و رفض الاقامة عند أحد
أبنائه، أو هكذا فسرت الأمر، قياسا لحالة أحد شيابنا، الذي تجاوز الثمانين من
العمر و يعيش في البلدة وحيدا بعد أن توفيت رفيقة عمره، و رحل أبناء البلدة إلى
المدن القريبة، تاركينه و القلة القليلة ممن اختاروا البقاء برفقة عمال المزارع
البغاليين الذي ملئوا البلدة،حاول أبنائه بشتى الطرق إقناعه لترك البلدة و العيش
معهم، خوفا على حياته بعد أن وهنت قواه ولم يعد قادرا على الاعتناء بنفسه، لكنه
رفض رفضا قاطعا، و كلما احتالوا عليه لنقله بالحيلة يختلق أعذارا غاية في الطرافة
و الذكاء في آن واحد لإجبارهم على إعادته، و هكذا انقسم من في البيت إلى فرق،
البعض مع الشايب و البعض الآخر ضده، فمن هم معه يرون أن الرجل يشعر بكيانه و قوته
عندما يكون في منزله، بالقرب من (حلاله) و البيت الذي عاش فيه كل حياته تقريبا، يشعر
فيه بإستقلاليته و كرامته كرجل قائم على بيت، يمشي حافيا على الرمال الساخنة يوميا
إلى مسجد البلدة الصغير حيث يلتقي برجال البلدة يتسامر معهم، و نقله للعيش في
المدينة في بيت بنته، يشعره بأنه عالة على الآخرين، كما أن حياة المدن لا تناسب من
هم على شاكلته، خاصة و أن صحته تتدهور عندما يحبس بين جدران المنزل، في محيط غير
مألوف بالنسبة له، يجد نفسه دائما محاصرا بأفراد العائلة حيث لا خصوصية و لا هدوء
مع وجود الصغار هو الذي إعتاد الحياة الهادئة..
أما الفريق الآخر فيرى بأنه ليس في وضع يسمح له بالاختيار، فهو أصبح كطفل
صغير لا يستطيع العناية بنفسه، ولا حتى إعادا الطعام، ولو لا سمح الله حدث له
مكروه لن يعلم بذلك أحد بعد هجران أهل البلدة لمنازلهم، و ستكون العائلة محط شماته
الناس، خاصة أن البلدة بعيدة نسبيا ولا يمكن لأفراد العائلة زيارته باستمرار، وهم
يعيشون قلقا دائما من أن مكروها قد يحدث له، و حينها لن يسامحوا نفسهم على
الاطلاق، وهو في البيت ووسط أبنائه سيكون في مأمن و سيوفر له كل أسباب الراحة، لكن
الفريق الثاني فشل مرارا و تكرارا في تفيذ خططه لجلب الشايب عنوة، و بالحيلة فهو
في كل مرة يجد وسيلة للعودة، إلى أن جاءت الفرصة مؤخرا عندما اشتعلت النار في
بيته، فاضطر إلى الاستسلام...
لكن بالطبع كما توقع الفريق الأول، هو لم يرتح للوضع البته، و تجده يتذمر
بشكل دائم، و يشتكي لكل من يأتي لزيارته، صحته أصبحت تتدهور، و حالته النفسية تسء
رغم العناية الفائقة التي يحيطه بها أفراد الأسرة، وهو أمر لم يفهمه البعض، فها هو
ذا يعيش في غرفة خاصة مؤثثة بأفخر الأثاث، يقدم له أحسن الطعام متى أراد، و يستحم
يوميا، و يلبس أحسن الملابس، و الجميع محاطون به، يهتمون به و يدللوه، فلماذا هو
غير راض بالوضع؟؟!!!
لو كنت في وضع مشابه لإحدى هذه الأسر، مالذي ستفعله!!
هناك 4 تعليقات:
هكذا من تقدم به السن وعاش وحيدا بين جدران صامته وقد يحادثها وتحادثه بلغة لا يفهمهما الا كلاهما
ولكن جاء الخطر الداهم الذى لا يرحم ولا يقدر ضعفه ووهنه فهى النارالحارقه التى لا يتفع معها تفاهمولا حوار الا من يطفئ حياتها وهوالماء الذى فيه الحياة والنماء
خاطرة من الواقع واليه
شكرا لك سيدي الفاضل على المرور، هذا هو قدرنا ومصيرنا جميعا
سلام عليكم..
وضع صعب على الجميع . والجميع يدفع الاثمان بطرق مختلفة لمشكلة تعاقب الأجيال وتغير الاحوال.
القاسم المشترك بينهم هو الحب ويمكن في الاغلب هو حب الذات من يتفوق (شيئ من الانانية) للاسف .
يجب على الاباء تربية الابناء وخلق روحية الايثار والبذل في سبيل مصلحة الجميع إذا اقتضى الامر، كما يربونهم على البر والطاعة.
العلاج بأن يتنازل (الاب كما الابناء) عن بعض مواقفه لتسير سفينة الحياة بنا جميعاً ، ولا يستغل هذا التنازل للابتزاز ، كما لا يعد هذا التنازل على انه ضعف بقدر ما هو نبل خلق وحكمة مدبر.
حتى يأذن الله بقراءة اخرى نسأله اللطف في جميع احوالنا كونوا بخير..
القرار صعب كما أراه شخصيا، و الاستسلام سيأتي اجلا أو عاجلا من الشياب، نسال الله السلامة
إرسال تعليق