07‏/07‏/2014

“اللي في القدر يطلعه الملاس”

        
كان رجلاً يجلس على ضفة النهر عندما لاحظ حكيماً يحاول إنقاذ عقرب من الغرق بمد يده له، لكن العقرب لسعت أصبع الحكيم الممدودة لها، فما كان منه إلا أن أعاد الكرة مرة أخرى، وفعلت العقرب ما فعلته في المرة الأولى بأن لسعت أصبع الحكيم الممدودة لإنقاذها، وفي المرة الثالثة نجح الحكيم في إنقاذ العقرب، حينها اقترب منه الرجل قائلاً: عجباً منك ألم تتعلم الدرس من المرة الأولى والثانية فمددت يدك مرة ثالثة للعقرب!؟ فأجاب الحكيم: من طبع العقرب أن يلسع، ومن طبعي التسامح، فلما أجعل طبع العقرب يغلب على طبعي؟! لم يسمح الحكيم لطبع العقرب أن يتغلب عليه لأن داخله لا يحمل إلا التسامح، لو كان غير ذلك لكانت اللسعة كفيلة بإظهاره، كما يحدث مع الكثيرين منا عندما نتعرض للإساءة من قبل أحدهم، وردة الفعل تجاه الإساءة تظهر معادن الأشخاص، فأما ان يقابل الإساءة بإساءة مثلها أو أكبر منها، فيبدأ ببث سموم الحقد والبغضاء تجاه من أساء إليه، أو يتعامل مع الناس بأخلاقه لا بأخلاقهم فيعفو ويسامح، إلا أن كثيرين منا يجدون صعوبة في التسامح، فالألم الذي تسببه بعض الإساءات كبير خاصة تلك التي تأتي من أقرب الناس إلينا، أو أولئك الذين لم نتوقع منهم الإساءة لأننا وضعنا لهم صورة رائعة في مخيلتنا، بالتالي تكون هنا خيبة الأمل مضاعفة، والألم يكون مضاعفا أيضا، فلا بأس أن نتألم فالألم شعور طبيعي وضعه رب العالمين فينا، لكن علينا أن لا ندع الألم يخرج ابشع ما فينا، لأن بعض ردات الأفعال تكون عنيفة وعلى إساءات بسيطة لا تتطلب كل ذلك، تؤدي إلى القطيعة وخسارة شخصيات رائعة كانت تثري حياتنا، لأننا كشفنا نحن بدورنا البشاعة بداخلنا التي كنا نخفيها حول ابتساماتنا التي نستقبل بها الآخرين، أفضل ردة فعل يمكن أن تجنبنا هذه النتائج المؤلمة هو أن نصمت ونتجاهل الموضوع حتى تهدأ حدة الالم ونخرج من الصدمة؛ لأن أي تصرف ينتج بعد الإساءة مباشرة لن يكون تصرفا عقلانيا حتما، ويكون التفكير مشوشا بفعل الصدمة، والصور مغايرة ربما للواقع أو مبالغ فيها، قد نكتشف بأن الموقف لا يستحق منا كل ذلك العناء، وقد نكتشف بعد فوات الأوان أننا قد حرقنا كل سفن العودة بتصرف طائش نتج عن ردة فعل متسرعة، كثيرون منا يبررون ردة فعلهم العنيفة تجاه الإساءة بأن الآخر (أخرجه عن طوره) أو (استفزه)، لكن هذا الاستفزاز شبيه بلدغة العقرب التي استهلينا بقصتها هذا المقال، ما كان له أن يظهر البذاءة والعنف إن لم يكن أصلاً موجوداً، ولو كان بداخلك طيبة وتسامح ما كان ممكنا أن يظهر سواه، قيل أن أحدهم حاول استفزاز غاندي يوما ليتحقق من صدق ما يروى عن تسامحه، فكان إذا مر به يبصق في وجهه ويقول له كلاما بذيئا وغاندي يرد على ذلك بابتسام، فما كان من الرجل إلا أن قال: عجبا لك أسيء إليك فتقابل إساءتي بابتسام، فقال له غاندي: اذا أهداك أحدهم هدية ورفضت أن تأخذها، هل تصبح الهدية لك؟ّ أجاب الرجل لا طبعا، فرد عليه غاندي، هو كذلك إذن فقد بقيت إساءتك لك لأني رفضت أن أخذها، كثيرون يظنون أن التسامح هو من أجل الآخرين إلا أن التسامح والأعراض عن الإساءة تعود بالفائدة عليك أنت، فمن أساء لك سينسى تلك الإساءة سريعاً ويمضي في حياته، ناسياً أو متناسياً ما بدر منه، ولكن إن حملت غضبك في قلبك فستعين من أساء إليك على تدميرك، لأن الغضب سيتلف أعصابك ويكدر صفو حياتك، لذا قال الأجداد في حكمهم: (الصافع ينسى لكن المصفوع لا)، لكنك بعدم نسيانك للصفعة فأنت تبقي على الألم في قلبك أطول مما يتوجب، فتعلم أن تعفو وتسامح من أجلك أنت، حتى لا تكون عونا للآخرين في إفساد سعادتك، وتكدير صفو حياتك، فمن تبقيه في قلبك تدفع أنت ثمن إقامته، من صحتك وسعادتك، والتسامح لا يعني أن ننسى الإساءة ونتظاهر أنها لم تحدث، لكن أن نأخذ منها العبرة وندعها تمضي، بحيث لا تصبح هي شغلنا الشاغل، والأيام كفيلة بأن تنسينا اياها، فالانسان معجون من النسيان، ومن أجمل نعم المولى علينا هي نعمة النسيان هذه، وإلا ما كان ممكنا للحياة أن تستمر بدونها، اسأل أي أم فقدت ابنا وستخبرك عن حجم الالم، الذي لولا نعمة النسيان كان قضى عليها، رمضان وقت رائع للتسامح وتطهير قلوبنا من الغضب التي تحمله تجاه الآخرين، محتسبين الأجر عند رب العالمين، وحده علام الغيوب الحق العدل القادر على إنصافك، ظالما كنت أم مظلوما، فلا تكن مثل ذلك الذي شرب السم ظنا منه أنه سيقتل عدوه، فالسم لا يقتل إلا شاربه، والجمرة التي تحملها لتلقي بها في وجه من إساء إليك ستحرق يدك قبل أن تصل للآخر.

ليست هناك تعليقات: