30‏/06‏/2014

بين الافينيوز والمباركية

      
المدن كالبشر، لكل مدينة معالمها الفريدة وتميزها، وكما أننا ننجذب لأشخاص أحيانا دون أن نعي سبب انجذابنا لهم، كذلك ننجذب إلى مكان بعينه دون سبب ظاهر، ومن هذه الأماكن الكويت، وإن كنت أظن بأن حبي للكويت يأتي من حبي لأهلها، والذكريات الرائعة التي تتركها كل زيارة لها، وربما لأن أغلب المدن أزورها سائحة أو في مهمة عمل، زيارات الكويت كأنها زيارة عائلية وإن لم يكن لي أهل فيها، لكن قلوب الكويتيين تشعرك بأنك بين أهلك، ومما زاد من هذا الشعور أن شبكات التواصل الاجتماعي جمعت بيني وعائلة كويتية، أصبحت بعدها فعلا أشعر بأنهم أهلي، نشارك تفاصيل يومنا معا، وأتتبع نمو الاطفال يوما بيوم، وتدرجهم في الدراسة، وأحتفل بمناسباتهم السعيدة معهم، هذه المرة قررت أن أقضي إجازتي السنوية بين أسرتي الحقيقية وأسرتي الكويتية، كشفت لي هذه الاجازة أهمية التواصل الانساني مع من نحب، وحاجتنا له، وكيف أن دوامة الحياة تأخذنا أحيانا وتلهينا عن الاستمتاع برفقة من نحب والتواصل الحقيقي معهم، فقد استمتعت حقا بهذه الاجازة بشكل استثنائي خاصة بوجود الأطفال الذين يملأون الحياة بهجة، لم يكن برنامجا سياحيا حافلا بالزيارات، والتجوال، فقد قضيته بين الفندق ومجمع الأفينيوز – مفخرة مدينة الكويت الجديد- وهو مجمع تجاري ضخم تم توسعته مؤخرا، قضيت الاجازة في المرور عبر مطاعمه المتعددة، من (سي عمر) الذي تقدم فيه الأطباق المصرية التقليدية على أنغام أم كلثوم، إلى (زوارة) الذي يقدم المأكولات الشعبية الكويتية في أجواء رائعة، وإن كنت فضلت تناول المأكولات الشعبية في مطعم (فريج صويلح) الشهير الذي اضطررت أن أنتظر في الطابور نصف ساعة قبل أن أحصل على طاولة، وهي ظاهرة تنتشر في كثير من مطاعم الكويت على كثرتها، حيث تضطر إلى أخذ رقم والانتظار فترة قد تصل إلى الساعة في بعض الأحيان من أجل الحصول على طاولة في مطعمك المفضل، في فريج بوصويلح تناولنا المربين ومطبق الزبيدي على أنغام المواويل الخليجية في مكان تفوح منه رائحة التراث وذكريات زمان أول التي تهيج المشاعر بشكل عجيب، فالكويتيون مهوسون بالطعام بشكل كبير لذا تتنوع المطاعم بشكل كبير أيضا، فالأفينيوز وحده يشتمل على عدد من المطاعم تتضمن أغلب المطاعم العالمية، وعلى نقيض الافينيوز يأتي سوق المباركية الشهير، وهو السوق القديم الذي يعادل سوق مطرح في السلطنة، في المباركية تختلف المشاهد كلية عنها في الافينيوز، الاجواء أكثر حميمية، أكثر بساطة، أكثر عراقة، وأكثر تنوعا، تشعرفيها بأنك انتقلت إلى عالم مختلف، هنا تجد الحفاوة الكويتية الجميلة، وهنا تلحظ شيوخ الكويت، وهم يجلسون على شكل مجموعات يحتسون الشاي في بيالات تقليدية، يتجاذبون أطراف الحديث، وتسمع صدى ضحكاتهم في أزقة سوق المباركية، هنا الوجوه المألوفة التي لا تتوانى في مبادلتك النظرات مصحوبة بابتسامة صافية وتحية تليق بهم وبضيوفهم، هنا لن تتردد في مبادلة الناس الحديث دون أن تخشى التعدي على خصوصياتهم، أو تفسد عليهم نزهتهم العائلية، فالوجوه هنا تدعوك لمحاورتها، عندما تسأل أحدهم أن يرشدك إلى مكان بعينه لن يكتفي بأن يصفه لك، بل سيتبرع باصطحابك، مهما كانت مشاغله وحتى لو كان اتجاهك معاكسا لوجهته، حدث هذا معي ثلاث مرات، مرتان مع امرأتين فاضلتين، تبرعتا بتوصيلي إلى المكان الذي كنت أقصده، رغم الحاحي بأنه يكفي أن يصفن لي الطريق، لكن لهجتي وشت بي وعرفت المرأتان بأنني ضيفة على الكويت، فأبين أن يتركنني دون أن يكرمنني بالطريقة التي سمح بها الموقف، شعرت بالأريحية وبالألفة في أزقة المباركية، وصوت الجميع وهو يحيني قائلا: يا هلا بعمان وأهل عمان أشعرني بأن خليجنا واحد وشعبنا واحد ليس شعارا يردد لكنه دم واحد يسري في عروق الخليجيين، لن يفسده تعدد لون جوازات السفر والشعار الذي اختارت كل حكومة أن تضعه على هذا الجواز، هذا الدم أقوى من الحدود السياسية التي رسمت خريطة بلداننا، أسماء القبائل التي كانت تزين واجهة المحلات كانت تشي بوضوح على عمق الأواصر التي تربطنا، في يوم آخر كان مرشدي شيخا مسنا اضطر أن يستعين بعصاه لينهض من على كرسيه ويوصلني إلى مدخل المحل الذي قصدته رغم اصراري عليه في عدم النهوض، لم يتعامل معي كغريبة ونحن نتبادل أطراف الحديث خلال الدقائق التي استغرقها المشوار، ويودعني كصديق قديم، هذه الأجواء وهذه الحفاوة التي أجدها من الكويت وأهلها هي ما يعيدني إليها كل مرة، فكانت رحلة لم أندم عليها، عوملت فيها كملكة من قبل مضيفتي وأسرتها، وشعرت فعلا بأن الدار داري، فبعض الأماكن تسكنك من خلال الذكريات الجميلة التي تطبعها في ذاكرتك، فمازالت زيارتي الأولى للكويت ضمن رحلة طلابية للأوائل على المناطق في الاعدادية العامة منذ عقود مضت محفورة في الذاكرة بدءا من البرد القارص الذي فاجئتني به الكويت وأنا أنزل من الطيارة، وانتهاء بالرطب الذي تناولته في عز الشتاء تجبرني على استعادة تفاصيل تلك الرحلة كل مرة.

ليست هناك تعليقات: