03‏/03‏/2014

إن بغيت تغلا يا ابعد يا


قبل أيام كنت في جلسة مع صديقتيّ المقربتين نناقش فيها خيار التقاعد أو الاستمرار في العمل، وكنا قد اقترحنا استعراض مميزات وعيوب عمل كل منا، وكانت أغلب الأسباب تعود إلى بيئة العمل سواء من حيث المميزات والحوافز أو تعامل المسؤولين في المؤسسة، عندما جاء دوري في استعراض بيئة العمل، وجدت صديقتيّ تنظران إليّ وقد اتسعت عيناهما دهشة، وعقبتا بالقول: هذه جنة التي تصفين وليست مؤسسة، لو كنت مكانك ما برحتها، استوقفني التعليق كثيرا وجعلني أعود لقراءة ما كتبت مرة أخرى، واستعراض مسيرتي المهنية التي امتدت إلى ما يربو على الثمانية عشرة عاما، لأجد أن الله سبحانه فعلا قد منّ عليّ ببيئة عمل استثنائية، وزملاء عمل كانوا طوال هذه السنين يثرون حياتي، بعلاقات إيجابية رائعة، وجدت الكثير من الدعم والاهتمام من الجميع وعلى كافة المستويات، وكانت فترة عملي هذه هي من أثرت فترات حياتي على الإطلاق بالتجارب الرائعة والدروس والمتعة والفائدة على حد سواء.
ذكرني هذا الموضوع بقصة قرأتها قبل سنوات حول رجل سئم من منزله وقرر عرضه للبيع من خلال مكتب عقاري، في اليوم التالي صادف إعلانا منشورا في الصحيفة لمنزل جميل بمواصفات طالما تمناها في منزل أحلامه فعاد إلى مكتب العقارات الذي نشر الإعلان والذي صادف أن يكون المكتب ذاته الذي طلب أن يبيع بيته من خلاله، بعد أن ألقى السمسار نظرة على الإعلان الذي كان الرجل يحمله في يده، قال له في دهشة: لكن هذا إعلان بيع بيتك أنت يا سيدي، فذهل الرجل الذي لم يتخيل أن يكون قد عاش في منزل أحلامه كل هذه السنين دون أن يشعر.
كان يشتكي لي من منسق مكتبه كثير الأخطاء قليل  التركيز، واعدا بأن تكون هذه هي آخر سنة عمل لهما معا، بعدها بأسابيع جاء خبر تعيينه مديرا عاما لإحدى الشركات الكبرى، بعد ثلاثة اشهر اتصلت للاطمئنان عليه لأجد منسق مكتبه السابق يرد على المكالمة، فمازحته حول انتقاله للعمل لدى مديره الذي أعلم بأن علاقته معه متوترة فأجاب: القط يحب خناقه كما يقول المثل الشعبي، لمديره وجهة نظر أخرى في هذا القرار فقد اكتشف بأنه من الصعب الحصول على منسق (يفهمه) وصححت له الجملة (يستطيع أن يتعايش مع مزاجك الصعب جدا).
قبل أيام وجدت زميل عمل يبعث بصورة رائعة جدا لمدينة صور العمانية، مصحوبة بتعليق مفاده بأن هذه ليست مدينة مارسيليا وإنما هي مدينة صور العمانية، اللقطة كانت ليلية وكانت رائعة فعلا، وجدت عقلي يبحث عن صدق التعليق لأنه رفض أن يكون كل هذا الجمال حقيقيا أو بالأحرى يكون في بلادي أنا.
كنت أترأس اجتماعا لوفد من مؤسسة دولية وأثناء استعراض بيانات السلطنة قال رئيس الوفد معلقا: لديكم حاكم استثنائي وأنا أدرك أنكم قد لا تتفقون مع رأيي هذا، لكن هذا هو رأي العالم فيه.
يصادفني أحيانا طلبات من بعض الموظفين المستقيلين من المؤسسة يطالبون فيها بالعودة بعد أن اكتشفوا أن المكان الجديد يفتقد إلى كثير من المزايا التي افتقدوها بحثا عن راتب أعلى أو هربا من مسؤول لم يكونوا راضين عنه، وتفاجئني دائما الصيغة التي يتحدثون فيها عن وظيفتهم السابقة بعد أن يكونوا قد جربوا بيئة عمل أخرى.
كنت أستمع إلى حوار بعض الطالبات المغتربات عن عمان، كن يتحدثن بحب وفخر منقطع النظير، لم أتمالك نفسي من التساؤل عن كيف لا يظهر هذا الحب الاستثنائي للوطن وهذا الولاء سوى في الغربة عند الكثيرين منا.
ذهبت لزيارة امرأة عجوز جاءت من رحلة علاج لعينها من الهند على نفقة الحكومة، مازحتها قائلة: لما لم تبقي حتى تشفي تماما طالما أن سفرك كان على نفقة الحكومة، فردت عليّ مندهشة: دواء عيني هو في رؤية سماء عمان، واستنشاق هوائها الذي يرد الروح، وانهمكت في دعاء طويل لعاهل البلاد وللحكومة ولكل من كان له يد في علاجها.
كنت أثناء كل إجازة أعود فيها للسلطنة أيام دراستي الجامعية، أستمتع جدا بالحب والاهتمام الذي أحظى به من الجميع خلال الفترة التي تعقب عودتي، كانت جدتي تنظر إليّ مبتسمة وتهز رأسها قائلة: هييه صدق من قال إن بغيت تغلا يا ابعد يا موت.
كنت  أراقب أبناء إخوتي الذين كانوا يتعاركون على دراجة صغيرة بعينها رغم أن كل واحد منهم لديه دراجة مشابهة تماما، ولسان حالي يقول: حتى ملائكة الرحمن تعلموا هذه السمة سريعا جدا.
لما ننتظر أن نخسر من نحب أو ما نحب لنشعر بقيمته، ولما لم تعلمنا كل التجارب التي مرت بنا درسا، إذ يبدو أننا نعيد تكرار الأخطاء نفسها مرارا وتكرارا، وكيف تعجز عيوننا عن رؤية الجمال من حولنا حتى يأتي من يذكرنا به.
ختاما أترككم مع هذا المقطع من أغنية بلوشية وردت ترجمتها في مقدمة رواية قلب بن بنقلان لسمو الأمير سيف الإسلام ابن سعود بن عبدالعزيز آل سعود «كم هي جميلة بلاد الآخرين مليئة بالناس والثروات وأنهار من العسل لكن الخشب الجاف في بلادنا خير من كل ما في العالم».

ليست هناك تعليقات: