27‏/01‏/2014

آباء وأبناء

 

• أرسل لي رسالة تهنئة بمناسبة المولد النبوي الشريف أخبرني من خلالها بأنه يقضيه مع والدته في أحد المنتجعات السياحية، سألته مندهشة: لوحدكما؟ أجاب بجذل نعم فقد مر وقت طويل دون أن نجلس أنا والحاجة سويا، فالتزامات العمل والأطفال حالت بيني وبين ذلك، فوجدتها فرصة سانحة، سألته: كيف كانت التجربة، فرد بجذل طفولي أدركت أن صحبة الوالدة قد أخرجت ذلك الطفل بداخله، كانت رائعة جدا، أعجبتني الفكرة بحق، فهنيئا لها بك.
• طلب مني عنوان المطعم الذي كنت أتحدث عنه، فبادرت بالتعليق هل تنوي اصطحاب أم الأولاد إليه؟ وكان العالم حينها يحتفل بعيد الحب الذي تزينت له الكرة الأرضية العطشى للحب بالأحمر، بمختلف دياناتها وطوائفها ومعتقداتها فرد عليّ بفرح: كلا وإنما سأدعو والدتي للعشاء فيه، فقد أعجبني اسم المطعم وذكرني بها، كم منكم فكر في أن يحتفي بست الحبايب في مناسبة شبيهة، ولو مرة كل سنتين حتى لا تغضب حبيبة القلب أو أم الأولاد، لمجرد أن تعطيها فرصة لتجربة ربما لم تكن متاحة لبنات جيلها، وربما لديها فضول يمنعها وقارها من أن تصرح بأنها تتوق للتجربة، وإن لم يكن مطعما فمشوار بالسيارة دون هدف أو جلسة على شاطئ البحر، إنها أنثى هي أيضا.
• قالت لي إن طفلها ذو الثمانية أعوام يرفض رفضا قاطعا أن يصطحبه والده إلى المدرسة، وإن حدث وأوصله فهو يطلب منه إيقاف سيارته بعيدا عن عيون أقرانه، عندما سألت طفلها عن السبب أجابها: صديقي ليس له أب، فوالده توفي، وأنا لا أريده أن يعرف أن لي أبا حتى لا أجرح مشاعره.
• تفاجأت بها تضع صورة والديها على ملفها الشخصي في الواتساب، مرفقا بدعاء جميل لهما، لا أظن بأنني رأيت صورة مثلها في ملف شخص ممن هم في قائمتي، إننا نضع صورا لكل من نحب، وأحيانا من لا نعرف لأن صورهم أعجبتنا، لكن من النادر أن نضع صورهم، وإن منع العرف أن نضع صورهم فدعاء لهم بالخير يكفي، إذ لم أستطع منع نفسي من تخيل وقع تأثير تلك الصورة على والدي صديقتي تلك وهما يفتحان الهاتف ويفاجآن بالصورة والدعاء.
• وصلني خبر وفاة جارة قديمة استحوذت قصتها على جزء كبير من ذكرياتي عن البلدة التي نشأت فيها، فقد قضت سنوات حياتها الأخيرة تحت شجرة في بيت ابنها المقابل لمنزل والدي، لأن زوجته وأبناءه لا يحتملون (قرفها)، رغم أنها كانت امرأة نظيفة تعبق برائحة المحلب والصندل على الدوام، فكانت تقضي أيامها ولياليها في البرد شتاء والحر صيفا تتوسد حصيرة رثة، وتتناول طعامها في صحن قديم خصص لها، كثير من أصحاب القلوب الرحيمة طالبوا بالمرأة العجوز لرعايتها، لكن الولد رفض، لتموت وحيدة تحت شجرتها بعد معاناة طويلة من الظلم والعقوق رغم احتفاظها بكامل قواها البدنية والذهنية حتى آخر يوم من حياتها.
• قالت لي إن صديقتها تكره أمها بشكل جنوني، ولم يشفع للأم معاناتها الطويلة مع مرض عضال ألزمها السرير سنوات قبل أن تموت، لم أتمالك نفسي من السؤال: ترى أي قسوة مارستها هذه الأم على ابنتها لتزرع فيها هذا الكم من الكره، لكن ما زلت أظن بأن الحب فن يمكن تعلمه لو تعلمنا فن التسامح مع الذات والآخرين، عندما يتعلق الأمر بالأم يصبح الحب واجبا.
• مشهده هو الرجل الخمسيني وهو يقبع على رجل والدته يقبلها أثناء وداعه لها وهي تستعد لرحلة العمرة بدونه، ويبكي كطفل صغير شغلت هي الأخرى وما زالت حيزا كبيرا من ذاكرتي عن أيام الطفولة.
• أصيبت بنوبة غضب شديدة فانهالت على ابنها ضربا أمام مرأى ومسمع من زوجته وصغاره، وما كان منه إلا وأن طأطأ رأسه لها حتى اكتفت دون أن ينبس بكلمة واحدة، ودخلت هي بعدها في نوبة بكاء ولم يحرك هو ساكنا، كان مشهده هو الذي عرفناه قويا صلبا، يتحول إلى (مجرد ابن) مشهد قوي ما زال محفورا في الذاكرة.
• أرسلت لي إحدى القارئات رسالة في أعقاب المقال الذي كتبته في الذكرى السنوية لوفاة والدي: هل هذه صورة حقيقية أم هي نسج من خيالك، إن الأب يمثل بالنسبة لي القسوة والخوف، إنني أتجنب الظهور أمامه طوال وجوده في البيت، فهل جميع الآباء مثل أبي أم أنني تعيسة حظ.
• قالت لي: زوجي يتحول إلى طفل صغير في حضرة أمه، قلت لها: يا لك من امرأة محظوظة.
• تعتقد الواحدة منا أنها تعرف زوجها حق المعرفة حتى تموت أمه، فينكشف لها شخص لم تعرفه قط.
• نمضي العمر في تنمية ثرواتنا وتنشئة أطفالنا وننسى في خضم ذلك أن والدينا أيضا يكبرون، وهم بحاجة أكثر لرعايتنا.

ليست هناك تعليقات: