29‏/07‏/2013

من أيد عاملة إلى موارد بشرية

 

 أمام حركات التمرد التي تأخذ أشكالا عدة في المؤسسات اليوم من إجازات مرضية متكررة يعرف القائمون على الموارد البشرية أنها مفتعلة، إلى الاعتصامات عن العمل في المؤسسات التي تتيح ذلك، وحتى القضايا المرفوعة أمام محكمة القضاء الإداري وكذلك الدوران الوظيفي المرتفع، يجد القائمون على الموارد البشرية أنفسهم في حيرة شديدة، فحتى مساعي بعض المؤسسات لرفع الرواتب فيها والمزايا الأخرى للموظفين لم تخفف من حدة المشكلة، فمطالبات الموظفين في تزايد مستمر وهي لم تعد محصورة في الراتب و المسمى الوظيفي، بل تعدتها إلى المطالبة بالشفافية والحق في المعرفة والمشاركة في اتخاذ القرار والتطوير والتدريب، متطلبات لم يكن الجيل السابق ليجرؤ على المطالبة بها، لكن مع انفتاح هذا الجيل على العالم من حوله من خلال الشبكة العالمية وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي بات الحديث عن (الحقوق الوظيفية) هو السائد في أروقة المكاتب، بعد أن أصبحت الوظيفة بالنسبة للكثيرين أكبر من مجرد (مصدر رزق) إذ تحولت إلى وسيلة لتحقيق الذات وإشباع الحاجة إلى العطاء والنمو والتطور، في كتابه الرائع (العادة الثامنة) يفسر لنا الراحل ستيفن كوفي هذا التمرد لكون العالم انتقل من ثقافة (الأيدي العاملة) التي كانت مطلبا أساسيا في عصر الزراعة أو العصر الصناعي حيث الاقتصاديات القائمة على العمل اليدوي وحده، إلا أنه في عصر المعرفة الذي نعيشه باتت الحاجة أكثر إلى (موارد بشرية) تتمتع بمهارات وقدرات ذهنية، وطريقة تفكير جديدة، وهذه القدرات أصبحت من الندرة بحيث إنها أصبحت لا تقدر بثمن، ذلك أن العوائد التي تجنى من ورائها أضعاف ما يجنى من المهارات اليدوية التقليدية، فهي الرابط الذي يربط جميع المهارات الأخرى، ويحركها ويشغلها، لكونها تقدم القيادة والابتكار والإبداع من أجل استغلال أمثل لبقية المهارات، وما الإحصائيات المخيفة لنسب الباحثين عن عمل في العالم إلا مؤشر على الهوة العميقة بين العرض (المهارات اليدوية) والطلب (المهارات الذهنية) في سوق العمل وهو ما بات ينعكس ليس فقط على اختلاف المسمى (موارد بشرية) وإنما حتى على البيانات المالية للمؤسسات، فبعد أن كانت (مصروفات الموظفين) تدرج في بند المصروفات أصبحت تعامل على أنها (أصول)، وهناك تركيز عادة على إلقاء اللوم على الحكومات والسياسات الاقتصادية السائدة لكن كوفي يرى أن القضية أكبر من قضية سياسات اقتصادية، فهي قضية انتقال من عصور مختلفة تماما إلى عصر جديد قائم اقتصاده على مهارات ومتطلبات جديدة كلية ما كانت الأجيال القادمة تتخيلها، لكن للأسف الشديد ما زالت السياسات التعليمية في العالم مبنية على تنمية قدرات عفى عليها الزمن وما زالت كثير من المؤسسات تدار بطريقة (القوى العاملة/الأيدي العاملة) لهذا يظهر هذا التمرد السائد في المؤسسات من تمرد وظيفي إلى ضعف إنتاج، فالخريج الجديد يأتي للمؤسسة و كله طموح ورغبة حقيقية في الإبداع والتطوير لكنه يفاجأ بأنه عين (لا ليفكر وإنما لينفذ) لأن التفكير مرتبط بمناصب وظيفية معينة، وهكذا يفقد هذا الخريج رويدا رويدا حماسه للعمل، وحس المسؤولية لأنه يتعلم بأن المسؤولية من اختصاص المديروحده، يحدثنا كوفي أيضا عن الاحتياجات الأساسية للإنسان التي لابد أن تشبع جميعها من أجل تحفيز الموظف على العمل والعطاء، ألا وهي احتياجات مرتبطة بكينونة الإنسان الذي هو جسد وعقل وقلب وروح، التي هي كما نعرف مترابطة بشكل كبير جدا، ولايمكن أن تشبع جانبا دون آخر دون أن تخل بهذا التوازن، فالجسد يريد المال من أجل أن يعيش، والقلب يريد علاقات إنسانية ثرية يشبع بها حاجته للعاطفة، والعقل يريد التعلم والتطور فيما تريد الروح (المعنى) وهو أن يشعر المرء أنه يؤدي رسالة، لكن للأسف قلة من الموظفين اليوم يعرفون رسالة المؤسسة ويستطيعون مواءمة أهدافهم الشخصية والمهنية مع هذه الرسالة، هذا إذا كانت لهم أهداف واضحة بالفعل، وهو ما يؤدي إلى هذا الكم من الإحباط والتمرد، الذي يجعل المرء يأتي للعمل في بداية الأسبوع و كانه يجر إلى المقصلة، لا ريب أن الدراسات أظهرت أن أكبر نسبة للوفيات بالسكتة القلبية في العالم تكون في الساعة التاسعة من صباح يوم الإثنين، وهو بداية الأسبوع في كثير من دول العالم، لأن الوظيفة أصبحت روتينا قاتلا بالنسبة للكثيرين، فضلا عن كثرة متطلبات بعض الوظائف التي قد لا تتلاءم مع رغبة و شغف المرء الذي قبل بهذه الوظيفة من أجل لقمة العيش ليس إلا، في داخل كل منا روح تبحث عن العطاء والتميز، قد لا يدرك الكثيرون منا ذلك لأننا دفنا هذه الرغبة تحت أكوام من الروتين والإهمال، لكنها تبقى حاجة فطرية فينا لن تكتمل سعادتنا بدونها، هي سنة كونية ببساطة.

هناك تعليق واحد:

موبايلات نوكيا يقول...

الوظيفة أصبحت روتينا قاتلا بالنسبة للكثيرين ، وانا واحد من هؤلاء