12‏/08‏/2012

رأس الذبيحة

صعقت وهي ترى الذبيحة وقد قطعت أشلاءً صغيرة من قبل خادمة منزلها: مالذي فعلته؟! سألتها باستنكار!! أجابت بذهول: قطعت اللحم وغسلته استعدادا لطبخه! وأشارت إلى تل في طرف المطبخ قائلة: أردت أن أعد الغداء أولا ومن ثم سأقوم بتقطيع الباقي وأضعه في الثلاجة! نظرت إلى كومة اللحم مرة أخرى ناقلة بصرها بين قطع اللحم الصغيرة التي توسطت القدر وبقية الذبيحة وصرخت بألم: أين الرأس؟! أشارت بفزع إلى سلة المهملات دون أن تنبس بكلمة، حينها فقط وصل غضبها ممزوجا بالألم حدا جعل الدموع تنهمل من عينيها بغزارة، لقد عانت الأمرين حتى تحصل على هذه الذبيحة في هذا الوقت الضيق، ولم يبق على وصول ضيوفها سوى ساعات قليلة، الأمر الذي أفزع الخادمة فخرجت راكضة تبحث عن الزوج في أرجاء المنزل كالمجانين! نظرت إليه زوجته مستنجدة: لقد قطٌعت الذبيحة! نظَرت الخادمة إليه برعب: لست أفهم، لقد طلبت مني إعداد الطعام للضيوف ! توجه إليها بالكلام وهي تقف في زاوية من المطبخ محاولة الاحتفاظ على ما يبدو بشيء من المنطق لاستيعاب الموقف قائلا: لا يجب تقطيع الذبيحة قطعا صغيرة فهذا عيب في عرف البدو الذي تنحدر منهم زوجتي، كما يجب الاحتفاظ بالرأس سليما أيضا، فنظرت إلى القدر الذي أخرجته للتو قائلة: لكن كيف سأطبخ اللحم بهذا الشكل في هذا القدر، كما أنك أخبرتني بأن ضيوفك عددهم أربعة! أجابها بهدوء: عليك أن تخرجي المرجل الكبير من المخزن و تطبخي فيه كل اللحم مع كمية كافية من الارز، أعادت عليه ما ظنت أنه لم يستوعبه بعد ثم قالت: ضيوفك عددهم أربعة؟! فنظر إليها بنفاذ صبر: ليس بالضرورة أن يأكل الضيوف الطعام المهم أن يجدوا طعاما كثيرا على الطاولة، نظرت إليه باستنكار: أتقول لي بأن أعد كل هذه الكمية من الطعام لينظر إليها ضيوفك دون أن يأكلوها؟! عندما أجابها بالإيجاب، جاء دورها هي لتلطم وتصرخ: (أوماني مجنون)- أي عماني مجنون- أوماني مجنون، والله أوماني مجنون!، كنت تستمع لهذا الحوار بتركيز شديد، ولأول مرة تتفهم موقف الخادمة وسبب ذهولها، فقد بدا لها أن الكلام غير منطقي على الإطلاق وهي تتابع المشهد كمتفرجة، فهي تصرفت وفقا لتفكيرها وثقافتها وما تعودت عليه في بلدها، بالنسبة لها الطعام يجب أن يكون حسب احتياج الأفراد الذي سيقدم لهم، ويجب تقطيعه ليتسع له القدر ويسهل نضجه ويكون سهلا أيضا في أكله، بالنسبة للزوجة جاءت من بيئة مختلفة تماما، فضيوفها جاءوا من مسافة بعيدة، وهم يتوقعون أن تكرمهم، وتظهر لهم نوعا من الاحترام والتقدير، والطعام الذي ستقدمه سيظهر لهم مدى احترامها لهم، من حيث الكمية والنوع، إذ يجب أن تكون الذبيحة عمانية، وهو ما يندر وجوده هذه الأيام خاصة في مسقط، ولو كان ضيوفها شبابا من جيل اليوم لكان يمكن لها أن تخدعهم بذبيحة مستوردة لكنهم كبار السن يستطيعون تمييز الذبيحة العمانية من رائحتها ومن نظرة سريعة، وهو ما يبرر ضرورة وجود الرأس على صدر الصحن، والكمية البسيطة قد تفسر على أنها بخل و تقليل من شأن الضيوف الذين لا تستطيع أن تضمن عددهم، فليس مستغربا أن يلتقوا ببعض المعارف في الطريق و يوجهون لهم الدعوة للانضمام إليهم، إن حدث وأخلت بأي من هذه الطقوس لا تضمن إحراج إخوتها في المجلس وعلى الملأ، فليس مستغربا أبدا أن يبادر أحد كبار السن أخاها بالقول: لقد أفسدت مسقط شقيقتكم فنست تربيتها، وتنكرت لعاداتها، جئناها قاصدين منزلها دون سواها، فما كان جزاؤنا!؟ لحما صوماليا على حبتي رز تتوسط صحنا صغيرا لا يكفي طفلا في الثانية من عمره، ولن ينسى ضيوفها هذه الإهانة بسهولة! لكن كيف ستفهم الخادمة هذا الكلام؟ ذلك أنها - أي الزوجة - في تلك اللحظة وهي تستمع إلى زوجها وهو يحاول شرحه لها، وجدت أن المنطق يقف في صف الخادمة، فبدت لها الصورة وهي تنظر إليها من خارج الإطار غريبة فعلا، كميات مهولة من الطعام تطبخ سعيا لإثارة إعجاب ضيف، لن يأكل منها حتى حاجته، ذلك أنه سيجاريها في التمثيلية، ليثبت لي أنه (شايف خير) و(عينه مليانه) سيأكل من طرف الصحن ويترك لها الباقي لتلقي به في القمامة، بلا مبالاة تلبية لأسلوب حياتنا الاستهلاكي هذا القائم على مظاهر كاذبة، حيث كل طرف يلبس قناعا تلو القناع، في محاولة لإضفاء صفة ليست فيه، أسلوب قائم على تحميل أنفسنا ما لا طاقة لنا به من ديون ومصاريف، في محاولة لتجميل ذواتنا، بسيارات فارهة لا طاقة لنا على احتمال أقساطها التي تستهلك نصف ميزانية الأسرة، لكننا رغم ذلك نغيرها كل ثلاث سنوات، وإجازات صيفية نقلد بها جيراننا نضطر إلى اقتراض كلفتها أيضا، وهلم جرا والكارثة الحقيقية أننا الوحيدون الذين نصدق هذه الكذبة، فالناس من حولنا قادرون على التميز ويعرفون حقيقتنا أكثر منا، ياله من مشهد

هناك 6 تعليقات:

... سعد الحربي ... يقول...

موضوع راااااااائع

شكراً لك

Unknown يقول...

شكراً لك يا سعد على القراءة، رمضان كريم

يراع أنتيفازين يقول...

جميلة جدا ومعبرة
في اعتقادي يمكننا ان نكون منطقيين ونتخلى عن السيارة الفارهة
والاجازة الصيفية بسهولة الى حد كبير
ولكن من الصعب بل من المستحيل تقريبا
ان نتملص من عادات تربينا عليها حتى لو كانت ابعد ما يكون عن المنطقية
لا اعرف ما الحل ولكن لا بد من مسايرة المجتمع احيانا ...
تقبلي مروري :)

Unknown يقول...

يراع انتيفازين: أتفق معك تماما، و الزمن كفيل وحده بأن يأتي على بعض هذه العادات

علي موسى يقول...

سلام عليكم..
واقع محزن مبكي للاسف وهي من العادات البالية التي التمسك بها تزيد الانسان جهلا وفقرا في عالم بات يحسب على المرء انفاسه قبل ماله
الاقتصاد نصف المعيشة ثقافة بدات تعرف طريقها للانسان العربي والخليجي بعد ان ضاق بعض شضف العيش بعد الاسهلاك لاجل المظاهر المفقرة..
ان تأتي متأخر خير من الا تأتي...حتى قراءة اخرى كونوا بخير

Unknown يقول...

أخي علي
أظنه ثمن الرفاهية الذي تدفعه شعوبنا من ثروات هذا الكوكب اسرافا و تبذيرا