عندما كنا صغارا أنا وأشقائي كان والدي – رحمه الله- كثيرا ما يصطحبنا في الإجازات إلى البلدة، لزيارة الأقارب حيث كنا نقطع المسافة التي لا تتعدى المائة كيلومتر بالسيارة في ثلاث ساعات وأحيانا تزيد كثيرا اذا كانت رحلتنا شتوية، إذ كان والدي يهوى التوقف بنا في السيوح الواقعة بين البريمي والسنينة في موسم الأمطار، وكانت هذه أجمل ما في الرحلة بالنسبة لنا نحن الصغار حيث يتحرر خلالها والدي – رحمه الله- من صرامته في تلك السيوح ويخرج الطفل بداخله وهو يشاركنا المرح، نمارس معه هواية الصيد التي كان يعشقها، أو نجمع (الفقع) التي تنتشر بكثرة في فصل الشتاء في تلك البقاع، حيث كان يجري لنا مسابقات لمن يجمع أكبر كمية من الفقع والحميض وغيرها مما تجود به الصحراء العمانية في موسم الأمطار، لم تكن هناك جوائز في أغلب الأحيان في تلك المسابقات، لكن الجائزة الأثمن بالنسبة لنا جميعا هي نظرة الفرحة في عيون الوالد وهو يرانا نركض نحوه نصب حصيلة ما جمعنا أمامه، وتلمع عيناه بتلك النظرة الطفولية الساحرة ويصرخ بأعلى صوته معلنا اسم (البطل) الفائز، مقترنا باسمه دائما ليزيد بذلك إحساسنا بالنشوة والفخر، يتركنا أحيانا كثيرا نلعب فيما ينطلق هو شاديا (بشلات) من قصائده أو مغنيا بصوت شجي يتردد في تلك البراري، قد يقطع وصلة الغناء أحيانا ويأتي ليقطع علينا مرحنا إذا ما صادف (سحلية) في طريقه لمعرفته بأنني أخاف السحالي مهددا بأن يضعها بين ملابسي، فيركض خلفي كطفل لا يتوقف حتى يمسك بي فلم أكن استطيع مجاراته في الركض، فقد كان سريعا كأرنب بري، بفضل تربيته البدوية ثم عمله في سلك الشرطة، عندما نصل إلى منزل جدتي التي تكون دائما مستعدة لاستقبالنا ومتوقعة حصيلة صيدنا، تعد النار في طرف فناء المنزل، فيما ننهمك نحن في فرز حصيلة مشوارنا من حيوانات برية و فقع لنقوم بشيه على النار، غالبا ما تجذب هذه الرائحة وضحكاتنا العالية أقرباءنا وأبناء البلدة الذين يتوافدون لتمضية السهرة معنا، ولا تتوقف كلمات الثناء والتشجيع طوال تلك السهرة فمع كل ضيف جديد ينضم للمجموعة يسرد عليه والدي (بطولاتنا) ويشير للبطل الفائز في تلك الليلة، تتكرر هذه الاحتفالات مع كل شهادة مدرسية أحضرها إلى البيت وعلى رأسها كلمة (المركز الأول) الذي لم أتنازل عنه مرة واحدة خلال الاثني عشر عاما والتي قضيتها طالبة في المدرسة، حرصا على عدم تفويت مشهد ابتسامة والدي وتلك النظرة المملوءة بالفخر التي كان يرنو بها إلي، كانت هذه الاحتفالات الصغيرة، و كلمات التشجيع التي لم يكن – رحمة الله عليه- يبخل بها علينا هي الدافع و المحرك الذي ساعدني و إخوتي على مر السنين على تجاوز الكثير من العقبات في حياتي، وهذا ما عزز إيماني بقوة تأثير الكلمة، وأهمية التحفيز في إثارة الهمم فيمن حولنا أبناء كانوا أو موظفين، فلا شيء يعادل كلمة الثناء، ولا شيء يعادل التشجيع النابع من القلب، فبه نستطيع تحقيق المعجزات، لقد رأيت الكثير من الأمثلة في حياتي ليس في الجانب الشخصي ولكن حتى على صعيد العمل، فمن حسن حظي أن الله سبحانه وتعالى سخر لي طوال مسيرتي المهنية رؤساء عمل، ممن انتهجوا معي هذه السياسة فكانت دافعا لي على الإنجاز، لذا أيقنت أن ليس لكلمة التشجيع مثيل في إثارة الهمم، وتحفيز الطاقات و إشعال النشاط في قلب الإنسان خاصة الأطفال، فالطفل الذي يتربى على يد والدين قابلوا إنجازاته الصغيرة بالتشجيع والشكر وأمطروه بوابل من الإطراء، سيكبر وهو مسلح بثقة بالتفس، وعزم لا يقهر، لن ينهزم أمام أول عقبة تعترض طريقه، ولن تكسره عبارات النقد الهدامة من رفاقه، على عكس الطفل الذي تربى على التقريع، والنقد الهدام، والتجاهل، والتحقير من شأنه، حيث سيكبر وهو ذو شخصية هشة، تتحطم أمام أية عقبة صغيرة يصادفها، ولن يجرؤ على الإقدام على تجربة جديدة لأنه سيظل العمر كله خائفا من النقد، ومن وسم (الفشل) الذي رسمه والداه على قلبه طفلا، خاصة إذا غابت لغة الحوار والتواصل بين الطفل ووالديه، ولم يشبع الطفل حنانا، وإذا لم يجد الطفل -خاصة الفتاة - الحب والإطراء من والدها في المنزل، ستحاول أن تبحث عنه خارج المنزل، وستلقي بنفسها أمام أي عابر يعدها بكلمة جميلة تطرب الآذن، ظلت عطشى لها طوال حياتها، ولمسة حنان افتقدتها من والديها صغيرة، إذ أن الكثير من الفتيات يعشن في أسر تفتقد لغة الحوار بين أفرادها، ولا يعترف الوالدان فيها باللمسة الحانية والكلمة الطيبة، أذكر قبل أسابيع أرسلت إلي إحدى القارئات رسالة تعليقا على مقالتي التي نعيت فيها والدي قائلة: هل يوجد أب بهذا الحنان فعلا أم أنك تتخيلين هذه الصورة عن والدك؟ إن الأب يمثل بالنسبة لي الخوف والرعب ليس إلا، إنني أتجنب رؤيته ما سنحت لي الفرصة ذلك، فرؤيته دائما تثير في قلبي الفزع! كيف ستستطيع هذه الفتاة أن تمضي في حياتها وهي محملة بكل هذه المشاعر السلبية عمن من المفترض أن يشكل لها مصدر الحماية و الأمان؟
If a man for whatever reason has the opportunity to lead an extraordinary life, he has no right to keep it to himself. (Jacques-Yves Cousteau)
05/08/2012
كلمة تشجيع.. كل ما يتطلبه الأمر أحيانا
عندما كنا صغارا أنا وأشقائي كان والدي – رحمه الله- كثيرا ما يصطحبنا في الإجازات إلى البلدة، لزيارة الأقارب حيث كنا نقطع المسافة التي لا تتعدى المائة كيلومتر بالسيارة في ثلاث ساعات وأحيانا تزيد كثيرا اذا كانت رحلتنا شتوية، إذ كان والدي يهوى التوقف بنا في السيوح الواقعة بين البريمي والسنينة في موسم الأمطار، وكانت هذه أجمل ما في الرحلة بالنسبة لنا نحن الصغار حيث يتحرر خلالها والدي – رحمه الله- من صرامته في تلك السيوح ويخرج الطفل بداخله وهو يشاركنا المرح، نمارس معه هواية الصيد التي كان يعشقها، أو نجمع (الفقع) التي تنتشر بكثرة في فصل الشتاء في تلك البقاع، حيث كان يجري لنا مسابقات لمن يجمع أكبر كمية من الفقع والحميض وغيرها مما تجود به الصحراء العمانية في موسم الأمطار، لم تكن هناك جوائز في أغلب الأحيان في تلك المسابقات، لكن الجائزة الأثمن بالنسبة لنا جميعا هي نظرة الفرحة في عيون الوالد وهو يرانا نركض نحوه نصب حصيلة ما جمعنا أمامه، وتلمع عيناه بتلك النظرة الطفولية الساحرة ويصرخ بأعلى صوته معلنا اسم (البطل) الفائز، مقترنا باسمه دائما ليزيد بذلك إحساسنا بالنشوة والفخر، يتركنا أحيانا كثيرا نلعب فيما ينطلق هو شاديا (بشلات) من قصائده أو مغنيا بصوت شجي يتردد في تلك البراري، قد يقطع وصلة الغناء أحيانا ويأتي ليقطع علينا مرحنا إذا ما صادف (سحلية) في طريقه لمعرفته بأنني أخاف السحالي مهددا بأن يضعها بين ملابسي، فيركض خلفي كطفل لا يتوقف حتى يمسك بي فلم أكن استطيع مجاراته في الركض، فقد كان سريعا كأرنب بري، بفضل تربيته البدوية ثم عمله في سلك الشرطة، عندما نصل إلى منزل جدتي التي تكون دائما مستعدة لاستقبالنا ومتوقعة حصيلة صيدنا، تعد النار في طرف فناء المنزل، فيما ننهمك نحن في فرز حصيلة مشوارنا من حيوانات برية و فقع لنقوم بشيه على النار، غالبا ما تجذب هذه الرائحة وضحكاتنا العالية أقرباءنا وأبناء البلدة الذين يتوافدون لتمضية السهرة معنا، ولا تتوقف كلمات الثناء والتشجيع طوال تلك السهرة فمع كل ضيف جديد ينضم للمجموعة يسرد عليه والدي (بطولاتنا) ويشير للبطل الفائز في تلك الليلة، تتكرر هذه الاحتفالات مع كل شهادة مدرسية أحضرها إلى البيت وعلى رأسها كلمة (المركز الأول) الذي لم أتنازل عنه مرة واحدة خلال الاثني عشر عاما والتي قضيتها طالبة في المدرسة، حرصا على عدم تفويت مشهد ابتسامة والدي وتلك النظرة المملوءة بالفخر التي كان يرنو بها إلي، كانت هذه الاحتفالات الصغيرة، و كلمات التشجيع التي لم يكن – رحمة الله عليه- يبخل بها علينا هي الدافع و المحرك الذي ساعدني و إخوتي على مر السنين على تجاوز الكثير من العقبات في حياتي، وهذا ما عزز إيماني بقوة تأثير الكلمة، وأهمية التحفيز في إثارة الهمم فيمن حولنا أبناء كانوا أو موظفين، فلا شيء يعادل كلمة الثناء، ولا شيء يعادل التشجيع النابع من القلب، فبه نستطيع تحقيق المعجزات، لقد رأيت الكثير من الأمثلة في حياتي ليس في الجانب الشخصي ولكن حتى على صعيد العمل، فمن حسن حظي أن الله سبحانه وتعالى سخر لي طوال مسيرتي المهنية رؤساء عمل، ممن انتهجوا معي هذه السياسة فكانت دافعا لي على الإنجاز، لذا أيقنت أن ليس لكلمة التشجيع مثيل في إثارة الهمم، وتحفيز الطاقات و إشعال النشاط في قلب الإنسان خاصة الأطفال، فالطفل الذي يتربى على يد والدين قابلوا إنجازاته الصغيرة بالتشجيع والشكر وأمطروه بوابل من الإطراء، سيكبر وهو مسلح بثقة بالتفس، وعزم لا يقهر، لن ينهزم أمام أول عقبة تعترض طريقه، ولن تكسره عبارات النقد الهدامة من رفاقه، على عكس الطفل الذي تربى على التقريع، والنقد الهدام، والتجاهل، والتحقير من شأنه، حيث سيكبر وهو ذو شخصية هشة، تتحطم أمام أية عقبة صغيرة يصادفها، ولن يجرؤ على الإقدام على تجربة جديدة لأنه سيظل العمر كله خائفا من النقد، ومن وسم (الفشل) الذي رسمه والداه على قلبه طفلا، خاصة إذا غابت لغة الحوار والتواصل بين الطفل ووالديه، ولم يشبع الطفل حنانا، وإذا لم يجد الطفل -خاصة الفتاة - الحب والإطراء من والدها في المنزل، ستحاول أن تبحث عنه خارج المنزل، وستلقي بنفسها أمام أي عابر يعدها بكلمة جميلة تطرب الآذن، ظلت عطشى لها طوال حياتها، ولمسة حنان افتقدتها من والديها صغيرة، إذ أن الكثير من الفتيات يعشن في أسر تفتقد لغة الحوار بين أفرادها، ولا يعترف الوالدان فيها باللمسة الحانية والكلمة الطيبة، أذكر قبل أسابيع أرسلت إلي إحدى القارئات رسالة تعليقا على مقالتي التي نعيت فيها والدي قائلة: هل يوجد أب بهذا الحنان فعلا أم أنك تتخيلين هذه الصورة عن والدك؟ إن الأب يمثل بالنسبة لي الخوف والرعب ليس إلا، إنني أتجنب رؤيته ما سنحت لي الفرصة ذلك، فرؤيته دائما تثير في قلبي الفزع! كيف ستستطيع هذه الفتاة أن تمضي في حياتها وهي محملة بكل هذه المشاعر السلبية عمن من المفترض أن يشكل لها مصدر الحماية و الأمان؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليقان (2):
( الجائزة الاثمن هى نظرة الفرحة فى عيون الوالد وهو يرانا
نصوير رائع واسقاط واضح شارح يا ليت كل اب يقرأه
حنان الاب لا يعوض ولا يطاوله اى عطف
مقال جدير بالقراءة والامعان
سلام عليكم..
من فقد التشجيع كمن فقد الاب فهو يتيم لا احد يكترث لأمره فيراه يتلقف اي فرصة تأتي لتشبع إحساسه بقيمة نفسه ومانراه من جنوح نحو التطرف والرذيلة والمخدرات إلا شاهد على هذا اليتم الخفي الذي تفقده الاسرة بأكملها بفقدها احد ابناءها ..اصلح الله امرنا بصلاح انفسنا موفقين
إرسال تعليق