عندما أتجول بذاكرتي إلى أيام الطفولة الأولى في البلدة التي ولدت فيها، أتذكر المشاهد ذاتها التي رسخت في الذاكرة وعجزت هذه السنون أن تمحيها، وهي ذكريات مرتبطة بطريقة حياة الناس وتفاعلهم مع بعضهم بعضا، مشاهد كتعليم وتربية الصغار على سبيل المثال التي يبدو أنه كان هناك اتفاق ضمني بأنها مسؤولية مشتركة يتحملها أفراد المجتمع، فلم نكن نسلم نحن الصغار من توبيخ أحد (الشيبان) فيما لو ضبط أحدنا وهو يأتي بسلوك خاطئ، وصورة جدي وهو ينحني ليلتقط حزمة من الشوك ألقت بها الرياح في طريق المصلين ذات مساء، وهو سلوك جبلنا عليه جميعا صغارا وكبارا، لذا لم نكن يومها بحاجة إلى عمال بلدية لتجميع القمامة، التي كان يلقى بها في (صنية) في أطراف البلدة ثم تحرق عندما تمتلئ الصنية بها، كان هناك إكتفاء ذاتي من كل الخدمات التي يحتاجها أبناء القرية، الذين كانوا جميعهم تقريبا من سكانها الأصليين، كانت الأعمال الجماعية هي العرف السائد، وكانت هي الرياضة وهي المهنة وهي التواصل الاجتماعي، الذي نفتقده نحن الذين نشأنا في تلك البيئة المعطاء، التي زرعت فينا قيمة العطاء الرائعة التي أثبتت الدراسات في علم النفس السلوكي أن تأثيرها في زيادة الشعور بالرضا والسعادة لدى الأفراد، وهناك دراسات شتى تشير إلى أن للعطاء مردودا إيجابيا على حياة الأفراد الأكثر عطاء، وتأثيرا كبيرا للتبرعات في تنمية الثروات، وهناك قصة شهيرة عن رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت بيل جيتس والذي يتربع على عرش أكثر المتبرعين والمتطوعين في العالم حين سئل يوما في إحدى الحفلات الخيرية التي كان يحضرها: لماذا تبرعت بهذا المبلغ الهائل؟ فأجاب قائلا: لكي تزيد ثروتي ضعف هذا المبلع، ذلك أنني اكتشفت أن أي مبلغ أتطوع به للأعمال الخيرية، يضاعفه لي الله على شكل عوائد أرباح في أعمالي، وهذا ما جاءت به تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف منذ آلاف السنين من خلال الصدقة والزكاة، والعطاء بلا شك طبيعة إنسانية جبلنا عليها، ولعل خير مثال على ذلك كان أثناء تعرض السلطنة للأنواء المناخية في عام 2006م، إذ لم يبق أحد تقريبا في منزله، الجميع خرج إلى الشوارع لتنظيف مخلفات الفيضانات وتوزيع المؤن وإنقاذ المحاصرين في الأودية، كان ذلك تلبية لفطرة بشرية لم يكن المرء محتاج فيها لمن يطلب منه ذلك، وفعلها الجميع عن طيب خاطر، وكان البعض على استعداد للتضحية بحياته من أجل إنقاذ حياة الآخرين، وكشفت تلك الظروف معادن الشباب العماني بشكل أثار فخرنا جميعا، وعلى الرغم من أننا اعتقدنا مخطئين بأن همة الشباب العماني ستخمد مع إعادة الأوضاع إلى طبيعتها، إلا أن ما حدث بعد ذلك كان عكس التوقعات، فقد استمرت الجهود الذاتية ونشطت الأعمال التطوعية، بشكل لم يسبق له مثل، ولعل الشباب العماني أدرك فعلا أن عمان لن يبنيها غير العمانيين، هذا ما شعرت به وأنا أطلع على أنشطة فريق (نادي وبل الرياضي الاجتماعي)، الذي أخذ على عاتقه تحقيق رؤية جميلة بجعل (وبل) قرية عمانية بمواصفات عالمية، من خلال برنامج طموح يعمل على استغلال طاقات أبناء القرية وتعدد خبراتهم ومهاراتهم، بالتالي فالبرنامج متنوع بتنوع احتياجات القرية واهتمامات أعضائه، فقد قام النادي بإنشاء وتعشيب ملعب كرة قدم بجهودهم الذاتية، ويقومون بتنظيف مخلفات السيول ليس في قرية وبل فحسب بل في مدينة الرستاق بشكل عام بعد أن خرجوا بجهودهم من القرية إلى المدينة الأم، من خلال معسكر ضم أبناء الولاية قاموا بتنظيف مجاري الأودية وإزالة المخلفات والأتربة من شوارع وأحياء القرية، كما قام الفريق بتنظيف وصيانة فلج القرية، إلى جانب ذلك يعقد النادي حلقات تدريبية ومحاضرات توعوية لأهالي المنطقة مستعينا بخبرات أعضائه أو بعض المختصين الذين يساندون النادي بين حين وآخر مدفوعين بهذا الحماس الذي يظهره شباب وبل من أجل توفير بيئة صحية في قريتهم، ورفع مستوى الوعي بين الأهالي، هدف لا أعتقد شخصيا بأنه بعيد بالنظر إلى ما حققه هؤلاء الفتية حتى الآن، هذا الصيف ومن أجل شغل وقت فراغ الطلاب قام أعضاء نادي وبل بمبادرة جميلة من خلال مشروع (مهرجان وبل المسرحي الأول) في مجال المسرحية القصيرة للشباب والذي يتنافس فيه مجموعة من الشباب والفرق المسرحية الأهلية بالولاية كنوع من التشجيع أيضا للمواهب الشابة فضلا عن معالجة بعض الظواهر السلبية التي يرى أعضاء النادي أنها بدأت تظهر في مجتمعهم في قالب مسرحي خفيف، وبهذا يخرج النادي من الدور التقليدي المتعارف عليه عن الأندية الرياضية، ليؤدي دورا بارزا يسعى من خلاله هؤلاء الشباب الرائعون أن تكون لهم مساهمتهم الفعالة في النهوض بقريتهم، الجميل أن كل هذه المشروعات تمول من صندوق تكافلي يجمع فيه الشباب مساهمات شهرية كل حسب قدرته، إلى جانب التبرعات التي يتلقاها النادي من بعض أهل الخير ممن سمعوا بما يقوم به الفريق وأرادوا أن تكون لهم مساهمة فيه....
If a man for whatever reason has the opportunity to lead an extraordinary life, he has no right to keep it to himself. (Jacques-Yves Cousteau)
08/07/2012
وبل.. كم هي جميلة
عندما أتجول بذاكرتي إلى أيام الطفولة الأولى في البلدة التي ولدت فيها، أتذكر المشاهد ذاتها التي رسخت في الذاكرة وعجزت هذه السنون أن تمحيها، وهي ذكريات مرتبطة بطريقة حياة الناس وتفاعلهم مع بعضهم بعضا، مشاهد كتعليم وتربية الصغار على سبيل المثال التي يبدو أنه كان هناك اتفاق ضمني بأنها مسؤولية مشتركة يتحملها أفراد المجتمع، فلم نكن نسلم نحن الصغار من توبيخ أحد (الشيبان) فيما لو ضبط أحدنا وهو يأتي بسلوك خاطئ، وصورة جدي وهو ينحني ليلتقط حزمة من الشوك ألقت بها الرياح في طريق المصلين ذات مساء، وهو سلوك جبلنا عليه جميعا صغارا وكبارا، لذا لم نكن يومها بحاجة إلى عمال بلدية لتجميع القمامة، التي كان يلقى بها في (صنية) في أطراف البلدة ثم تحرق عندما تمتلئ الصنية بها، كان هناك إكتفاء ذاتي من كل الخدمات التي يحتاجها أبناء القرية، الذين كانوا جميعهم تقريبا من سكانها الأصليين، كانت الأعمال الجماعية هي العرف السائد، وكانت هي الرياضة وهي المهنة وهي التواصل الاجتماعي، الذي نفتقده نحن الذين نشأنا في تلك البيئة المعطاء، التي زرعت فينا قيمة العطاء الرائعة التي أثبتت الدراسات في علم النفس السلوكي أن تأثيرها في زيادة الشعور بالرضا والسعادة لدى الأفراد، وهناك دراسات شتى تشير إلى أن للعطاء مردودا إيجابيا على حياة الأفراد الأكثر عطاء، وتأثيرا كبيرا للتبرعات في تنمية الثروات، وهناك قصة شهيرة عن رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت بيل جيتس والذي يتربع على عرش أكثر المتبرعين والمتطوعين في العالم حين سئل يوما في إحدى الحفلات الخيرية التي كان يحضرها: لماذا تبرعت بهذا المبلغ الهائل؟ فأجاب قائلا: لكي تزيد ثروتي ضعف هذا المبلع، ذلك أنني اكتشفت أن أي مبلغ أتطوع به للأعمال الخيرية، يضاعفه لي الله على شكل عوائد أرباح في أعمالي، وهذا ما جاءت به تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف منذ آلاف السنين من خلال الصدقة والزكاة، والعطاء بلا شك طبيعة إنسانية جبلنا عليها، ولعل خير مثال على ذلك كان أثناء تعرض السلطنة للأنواء المناخية في عام 2006م، إذ لم يبق أحد تقريبا في منزله، الجميع خرج إلى الشوارع لتنظيف مخلفات الفيضانات وتوزيع المؤن وإنقاذ المحاصرين في الأودية، كان ذلك تلبية لفطرة بشرية لم يكن المرء محتاج فيها لمن يطلب منه ذلك، وفعلها الجميع عن طيب خاطر، وكان البعض على استعداد للتضحية بحياته من أجل إنقاذ حياة الآخرين، وكشفت تلك الظروف معادن الشباب العماني بشكل أثار فخرنا جميعا، وعلى الرغم من أننا اعتقدنا مخطئين بأن همة الشباب العماني ستخمد مع إعادة الأوضاع إلى طبيعتها، إلا أن ما حدث بعد ذلك كان عكس التوقعات، فقد استمرت الجهود الذاتية ونشطت الأعمال التطوعية، بشكل لم يسبق له مثل، ولعل الشباب العماني أدرك فعلا أن عمان لن يبنيها غير العمانيين، هذا ما شعرت به وأنا أطلع على أنشطة فريق (نادي وبل الرياضي الاجتماعي)، الذي أخذ على عاتقه تحقيق رؤية جميلة بجعل (وبل) قرية عمانية بمواصفات عالمية، من خلال برنامج طموح يعمل على استغلال طاقات أبناء القرية وتعدد خبراتهم ومهاراتهم، بالتالي فالبرنامج متنوع بتنوع احتياجات القرية واهتمامات أعضائه، فقد قام النادي بإنشاء وتعشيب ملعب كرة قدم بجهودهم الذاتية، ويقومون بتنظيف مخلفات السيول ليس في قرية وبل فحسب بل في مدينة الرستاق بشكل عام بعد أن خرجوا بجهودهم من القرية إلى المدينة الأم، من خلال معسكر ضم أبناء الولاية قاموا بتنظيف مجاري الأودية وإزالة المخلفات والأتربة من شوارع وأحياء القرية، كما قام الفريق بتنظيف وصيانة فلج القرية، إلى جانب ذلك يعقد النادي حلقات تدريبية ومحاضرات توعوية لأهالي المنطقة مستعينا بخبرات أعضائه أو بعض المختصين الذين يساندون النادي بين حين وآخر مدفوعين بهذا الحماس الذي يظهره شباب وبل من أجل توفير بيئة صحية في قريتهم، ورفع مستوى الوعي بين الأهالي، هدف لا أعتقد شخصيا بأنه بعيد بالنظر إلى ما حققه هؤلاء الفتية حتى الآن، هذا الصيف ومن أجل شغل وقت فراغ الطلاب قام أعضاء نادي وبل بمبادرة جميلة من خلال مشروع (مهرجان وبل المسرحي الأول) في مجال المسرحية القصيرة للشباب والذي يتنافس فيه مجموعة من الشباب والفرق المسرحية الأهلية بالولاية كنوع من التشجيع أيضا للمواهب الشابة فضلا عن معالجة بعض الظواهر السلبية التي يرى أعضاء النادي أنها بدأت تظهر في مجتمعهم في قالب مسرحي خفيف، وبهذا يخرج النادي من الدور التقليدي المتعارف عليه عن الأندية الرياضية، ليؤدي دورا بارزا يسعى من خلاله هؤلاء الشباب الرائعون أن تكون لهم مساهمتهم الفعالة في النهوض بقريتهم، الجميل أن كل هذه المشروعات تمول من صندوق تكافلي يجمع فيه الشباب مساهمات شهرية كل حسب قدرته، إلى جانب التبرعات التي يتلقاها النادي من بعض أهل الخير ممن سمعوا بما يقوم به الفريق وأرادوا أن تكون لهم مساهمة فيه....
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك 3 تعليقات:
وما أجملها من ذكريات
الله يحفظكم
موفقة أختي
سلام عليكم..
بالعطاء تعرف الانسانية الحقة وبه تبنى الاوطان..
بالفعل أخي علي، جعلنا الله و إياكم ممن ينتهج العطاء احتسابا للأجر منه سبحانه
إرسال تعليق